جوانب من تاريخ المغرب : المعرفة العلمية في خدمة السلطة السياسية (3)
عبد الرحمن القاسمي
لا شك أن الجدل حول التاريخ وكتابته يبقى موضوعا متعدد الجوانب والإشكالات،ورغم هذه الصعوبات فقد توالت الأصوات الداعية إلى إعادة كتابة تاريخ للمغرب على أسس علمية؛ باعتبار أن تاريخ المغرب الصحيح لم يكتب لحد الساعة.إن كتابات الأجانب ليست تاريخا يمكن الركون إليه بحكم حمولته الاديولوجية الاستعمارية،بينما يمثل ما كتبه المؤرخون المغاربة رصيدا ناقصا لا يمكن الاكتفاء به.من هذا المنطلق أمكننا التمييز في إطار الكتابات التاريخية حول مغرب القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ،بين تأليف تاريخي وطني مغربي (حاول في معظمه الرد على الخطاب الأجنبي) وتأليف أجنبي كولونيالي.
إن الدراسات التي أنجزتها مختلف الدوائر العلمية والسياسية المختلفة بفرنسا واسبانيا،حول بلاد المغرب قد تم توظيفها إلى حد بعيد في التحضير للغزو الامبريالي.والحق يقال أن لا أحد اليوم ينكر أهمية ودور الاستطلاع الاثنوغرافي في العملية الاستعمارية.ولاغرو فقد أقدمت سلطات الحماية الفرنسية المسؤولة على الكيان الفرنسي بالجزائر،توجيه عناية الباحثين إلى ناحية المغرب لجمع المعلومات في أفق الوصول إلى بحث شامل ودراسة مفصلة عن جغرافيته ولغاته وأنظمته الثقافية والسياسية والدينية.
إن معظم هذه الدراسات والانتاجات العلمية المتباينة التخصص هي كتابات أجنبية عامة وأوربية خاصة.ويشكل هذا الإنتاج رصيدا هائلا كما أن مؤلفيه يختلفون من حيث الوظيفة، فهناك العسكريون ورؤساء البعثات والتجار ورجال الدين.والحق يقال أن غزارة هذا الإنتاج يدل على وجود علاقة غير متكافئة بين المغرب وأوربا،بمعنى آخر ننظر إلى هذا الإنتاج في حد ذاته من منطلق ارتباط المعرفة العلمية والسلطة السياسية أي أن هذا الإنتاج شكل نوعا من التحضير الفكري للمشروع الاستعماري.ويبدو بجلاء أن المد الاستعلامي كان إذن مواكبا للنوايا الاستعمارية وممهدا لأعمال الاغتصاب العسكري.واستنادا على تلك الدراسات بل وعلى أساسها وأرضيتها وضع المخططون السياسيون المناهج والأساليب لإخضاع المغرب،فكانت نتائج أبحاثهم العلمية وخلاصتها سلاحا فعالا مهد الطريق للجيوش العسكرية لإخضاع المغرب.
ومن رواد الفكر الاستعماري للمغرب "ادمون دوتي" أحد أقطاب علم الاجتماع الاستعماري.لقد رفع هذا الأخير تقريرا إلى الوالي العام الفرنسي بالجزائر يقترح فيه أسلوب ومنهج احتلال المغرب ومما جاء في هذا التقرير " ... أن يسبق الاحتلال القهري للمغرب الفتح العلمي ليكون هو كذلك فتحا فرنسيا".والى جانب "ادمون دوتي" هناك " ريمون توماسي" الذي وجه تقريرا إلى حكومته جاء فيه "... على فرنسا أن تبادر إلى التعرف على ساحة المعركة حيث تنتظرها مصائر تزداد مجدا كلما كانت أقل دموية،وانتصارات تزداد رسوخا كلما نيلت بأسلحة سلمية والعلم هو أحد هذه الأسلحة وأول سلاح ينبغي توظيفه".
واهتم الراهب "ميشال دوفوكو" بكتابة تاريخ سردي عام للقطر المغربي أرضا ورجالا وخيرات،في حين ركز "جاك بيرك" في دراسته على البنيات الاجتماعية للقبائل المغربية، وهو الذي توصل إلى أنه لدراسة واقع القبيلة المغربية دراسة موضوعية لابد من ربطها بمحيطها ووسطها الايكولوجي.إن الاختلاف في اهتمامات أصحاب التأليف أدى إلى بروز نوع من التخصص،فاختص "ميشو بلير" في تاريخ الفكر الديني المغربي (دراسة مؤسسة الزوايا) كما عمل على تنشيط البحث السوسيولوجي الميداني الذي أفضى إلى إصدار سلسلة "مدن وقبائل المغرب" التي تشكل مصنفا للمغرب وقبائله ومدنه وزواياه في بعد اثنوغرافي وصفي مقارن بين "مغرب السبة" و "مغرب المخزن".أما "هنري تيراس" ففي جوانب من دراساته اهتم بمجال العمران، على أن" روبر مونتاني" قام بدراسة معمقة لقبائل سوس.
ويمكن القول بصفة عامة أن التأليف الأجنبي (أحلت على نماذج منه) اهتم بكل أشكال التنظيم الاجتماعي وبجميع مظاهر الحياة الدينية وبأهم المؤسسات القائمة آنذاك.على أن هذا الإنتاج أصبح مهيكلا تشرف عليه البعثة العلمية التي أسسها في مطلع القرن العشرين أستاذ السوسيولوجيا الفرنسي" لوشاتوليي".
إن حصيلة رصد وتتبع مختلف الكتابات الأجنبية وبخاصة الفرنسية،أكدت أنها تدور في فلك ثنائي أو ازدواجي بمعنى آخر اختزال تاريخ المغرب في كونه منقسم غير موحد في بنيته.فهي كتابة نظرية تقوم على منطق ثنائي عرب/"بربر" على المستوى العرقي،سهل/جبل على المستوى الايكولوجي الطبيعي وبلاد المخزن/بلاد السبة على المستوى السياسي ،وأخيرا الشرع/العرف على المستوى القانوني.مما لاشك فيه ومن حيث البناء النظري تبدو هذه القراءة منسجمة،غير أن خلفيتها الاديولوجية واضحة ومكشوفة فهي تروم التأكيد على أن المغرب كان يعيش وما يزال في فوضى تاريخية شاملة؛لذلك فهو بلد يحتاج إلى وحدة وحماية،كما تهدف الوصول إلى نتائج مسبقة أي أن المغرب لم يكن في يوم من الأيام قادرا على القيام بذاته لولا تدخل دولة أوربية تضطلع بمهمة إدخاله في نطاق الحضارة والتمدن.
قصارى القول أن الأجانب خلفوا عدة وثائق تهم تاريخ المغرب،فالتدخل الأجنبي كان من نتائجه أن وفر لنا مجموعة من الوثائق لم يكن للمغاربة عهد بها تتحدث لغة الأرقام وهي مفيدة جدا وأساسية لأنها أتاحت إمكانية دراسة جوانب اقتصادية وثقافية من تاريخ المغرب.