جوانب من تاريخ المغرب : لمحة عن علاقة المخزن بالجماعاتالبشرية (1)
عبد الرحمن القاسمي
لا شك أن الجدل حول التاريخ وكتابته يبقى موضوعا متعدد الجوانب والإشكالات،ورغم هذه الصعوبات فقد توالت الأصوات الداعية إلى اعادة كتابة تاريخ للمغرب على أسس علمية؛ باعتبار أن تاريخ المغرب الصحيح لم يكتب لحد الساعة.إن كتابات الأجانب ليست تاريخا يمكن الركون إليه بحكم حمولته الاديولوجية الاستعمارية،بينما يمثل ما كتبه المؤرخون المغاربة رصيدا ناقصا لا يمكن الاكتفاء به.وقبل التطرق لعلاقة المخزن بالجماعات البشرية،أود الإشارة إلى نقطة هامة وهي أني لا أدعي القيام برصد دقيق لمختلف المواضيع التي سأتطرق إليها عبر سلسلة من المقالات ولا أعتبر نفسي مؤهلا بالقياس لحجم ونوعية المعلومات المتوفرة للقيام بذلك.فكل ما أصبو إليه هو أن أحيل عليها انطلاقا من إشارات تاريخية قليلة أوردتها بعض المصادر المختلفة أو وثائق محلية،لكن كل الأمل يبقى معقودا على القراء والباحثين والدارسين لسد ما أمكن من الثغرات .
لم يكن النظام المحلي قبل الحماية وبعده بفترة معينة نظاما موحدا،فسلطة المخزن لم تكن شاملة على جميع التراب القبلي المغربي فهناك ما يسمى ب "قبائل المخزن" و "قبائل السيبة".وكانت حدود القبائل في مجالاتها لا تعرف ضابطا طبوغرافيا ومكانيا،وإنما كانت مرتبطة بالماء والمرعى.فاتساع حياة الرعي هي المكون الأساس لنمط العيش، ومن شأن هذا الوضع أن يخلق ظاهرة "التشتت القبلي" وبالتالي ضعف السلطة المركزية في بسط نفوذها على مجموع القبائل.
إن المخزن المغربي آنذاك كانت تعوزه الوسائل المادية والبشرية الناجعة لمراقبة كافة مناطق البلاد مراقبة فعالة ومستمرة،لذلك فان تنقل السلطان يصبح بالضرورة إجراءا طبيعيا وتصبح المحلة أو" الحركة" وسيلة لتسيير شؤون البلاد والعباد خاصة إذا ما وضعنا في الحسبان التمردات والانتفاضات التي عمت مجالات جغرافية متعددة؛فهل يمكن اعتباراذن تلك الهبات القبلية ظاهرة عضوية أم مجرد وقائع ظرفية؟
يخيل إلينا أن المغرب في تاريخه خاصة في القرن التاسع عشر عرف مجموعة من التمردات وعدم الاهتمام بوجود سلطة مركزية،حيث تعددت الأسباب والعوامل التي أدت إلى مثل تلك الهبات القبلية فبعضها هو نتاج ظروف طبيعية والبعض الآخر نتاج لأسلوب سياسي واقتصادي كان المخزن يتدخل به اتجاه القبائل دون أن ننسى دور المعطيات الاجتماعية والثقافية في إذكاء حماس بعض التمردات.ولا غرو فالفترة الزمنية لها أهمية قصوى عند دراستنا لأسباب التمرد،فغالبا ما كانت "القبائل المتمردة" تترقب فرصة وفاة السلطان للقيام بثورتها وليس هذا معناه التزامها الطاعة طيلة حياته.ومن ثمة فكل قبيلة متمردة تدرك كل الإدراك أن عسكر المخزن لن يدركها عن عجل فأمامها فرصة الاستراحة من تعسفات ممثلي المخزن ومن الأعباء الضريبية بل والانتقام ما أوسعها أن تنتقم.
إن التوتر كان سائدا بين محصلي الضرائب وبين القبائل الغارمة، وبين هذه الأخيرة نفسها مما كان يدفع في اتجاه خروج حركات عسكرية متوالية يتدخل بموجبها المخزن إما بقرار سيادي منه وإما بطلب من المتنازعين.ويبقى واضحا أن دور التحكيم هذا يقوي من شرعية السلطان السياسية – الدينية ويعطيه مكانة متعالية على المجتمع المدني.فقد حدث للسلطان محمد بن عبد الله أن تدخل في الصراع الذي وقع في الجنوب الشرقي للمغرب بين حلفي ايت عطا وايت يفلمان (أي الذين أوجدوا الأمان)؛فغني عن البيان أن النزاع الحاصل بين الحلفين يدخل في إطار محاولة كل طرف الحفاظ على مصالحه داخل مجاله الحيوي ( مراعي ، مياه ... )،وهذا ما أفضى إلى مواجهات مستمرة بينهما.
ولدينا في التاريخ المغربي حالات لفروع من القبائل لا تؤدي واجبها الجبائي مما يجعلها تتحمل لوحدها ما كان من المفروض أن يشاركها فيها غيرها،ومن ثمة تبدأ شرارة العصيان بسبب عوز الغارمين على الأداء خاصة في السنوات العجاف فيعم التمرد الذي تسميه الوثائق المخزنية بالفساد فتواجهه بالعدة والعتاد (حركات السلطان المولى إسماعيل ، المولى سليمان ،السلطان الحسن الأول "لتأديب" القبائل المتمردة خاصة بمجالات الأطلس المتوسط والأطلس الكبير).
لقد أهملنا السياق الاجتماعي عند تطرقنا لعلاقة المخزن بالقبائل،ويجذر بنا أن نشير إلى وجود مؤسسة لعبت دورا حاسما في الصراعات الدائرة آنذاك وهي مؤسسة الزوايا. ويمكن القول أن ظهور الزوايا في بلاد المغرب ارتبط أساسا بظروف سياسية وتاريخية واجتماعية خاصة،كغياب السلطة المخزنية المركزية في مجالات معينة، أو تعرض البلاد والعباد إلى كوارث طبيعية كالقحط والطاعون والجراد ، أو تعرض المجتمع لتهديدات خارجية حقيقية مشرقية وأوربية؛ فاستغل أهل الطرق وشيوخ الزوايا مختلف هذه الأوضاع في المغرب، وتحركوا من أجل تعبئة المجتمع واستنهاضه ضد ما يحدق به من أخطار. فاعتبرت مؤسسة الزاوية خاصية من خصائص تاريخ المغرب الذي لا يمكن تناوله دون الأخد بعين الاعتبار بصمة الزاوية والطرق في تشكيل جزء كبير منه.
لقد لعبت الزوايا أدوارا متباينة بحسب موقفها من المخزن، فمنها من لعب دورالمحرض ضد سلطته لشق عصا الطاعة عن السلطان،ومنها من لعب دور الوسيط بين القبائل والمخزن.وعلى ما يبدو فان هذا الدور وهذه الوظيفة الأخيرة كثيرا ما كانت تشجع من قبل المخزن السلطاني نفسه. وتكمن أهمية الزوايا إجمالا في كونها تقوم بوظائف اجتماعية دينية كما أنها حرم يلجأ إليه بعض الأحيان الهاربون من بطش المخزن.هذا الأخير الذي لم يكن قادرا على فرض منطق سياسي موحد على كامل البلاد،كان ينافس من قبل التنظيم القبلي أو ما يسمى ب "الجماعة" أو "تجماعت" التي طبعت بممارستها المجتمعية المباشرة آنذاك مرحلة جد متقدمة في التسيير الديمقراطي لشؤون القبيلة.