إن السياحة الثقافية بالجنوب المغربي لم تتحول بعد إلى ظاهرة ذات شأن كبير بل ربما أن الحديث عن سياحة ثقافية أصلا لا ينبغي أن يتم إلا تجاوزا، وذلك في ظل غياب مجموعة من الشروط والمقومات التي من شأنها المساهمة بشكل فعال في وضع تصور واضح لمفهوم السياحة الثقافية، على اعتبار أن ذلك يساعد على خلق آليات دقيقة للعمل، وبالتالي تقديم إجابات ومقاربات مختلفة ومتكاملة للطموح المشروع الذي تمثله الآفاق الانتظارية لكل الفاعلين في هذا القطاع والمستفيدين منه على حد سواء.
تستمد السياحة الثقافية أسسها من التاريخ العريق للمنطقة، والتي لعبت دورا بارزا في صنع تاريخ المغرب، بفضل موقعها الاستراتيجي كصلة وصل بين شمال إفريقيا، وإفريقيا جنوب الصحراء، وبين الشرق والغرب، ومن هذا الموقع قامت بدور ريادي في تجارة القوافل الصحراوية، والتي انعكست إيجابيا على المنطقة، إذ عرفت ازدهارا اقتصاديا واجتماعيا، واستقطبت عبر تاريخها أعدادا هائلة ومختلفة من الأجناس البشرية في الأصول والمعيشة وفي اللغة والعادات.
إن الحديث عن تاريخ تافيلالت، هو حديث بالأساس عن مدينة سجلماسة التي يرجع تاريخ تأسيسها حسب البكري إلى سنة 140 هـ على يد بني مدرار، ومن هذه السنة شكلت المدينة مركزا تجاريا تعاقبت في السيطرة عليه كل الإمبراطوريات التي عرفها المغرب من المرابطين إلى العلويين.
هذا الرخاء الاقتصادي والتنوع الاجتماعي أفسح المجال لخلق ثروة فكرية، حيث أبدع الفيلاليون في شتى الميادين، وقد تظافرت عوامل عدة في الحفاظ على الكثير من السمات والخصوصيات التقليدية بالمنطقة، والتي لم تطرأ عليها تحولات كبيرة، وهي خصوصيات تشكل مادة أولية في التخطيط السياحي. على أن الحديث عن تاريخ سجلماسة وإشعاعها، لا ينبغي أن يحجب عنا أهمية الحضارة بل الحضارات الما قبل-تاريخية التي شهدتها المنطقة. فخلال هذه الفترة شكلت جهة تافيلالت - بمفهومها الواسع - قبلة لرعاة أنواع مختلفة من البقريات والضباء الذين حافظوا عل تقاليد الصيد العتيقة، في مرحلة كان فيها المناخ يسمح بوجود هذا النوع من الوحش ويكفينا للتدليل على صحة وأهمية ما أوردناه من معطيات، أن نشير إلى ما تزخر به المنطقة من نقائش صخرية تعد بالمئات.
إن كل الحضارات والمجتمعات التي تعاقبت على المنطقة منذ فترة ما قبيل التاريخ وإلى اليوم، تركت بصمات واضحة ومتنوعة : منها ما هو مادي ومنها ما هو معنوي، شكلت جميعها تراثا غنيا ومتنوعا وهو تراث يمكن تفكيك مقوماته وتحديدها في العناصر التالية: نقوش صخرية، مواقع نيوليتية، بنايات - قصور وقصبات - مكتبات تاريخية عريقة، وأيضا بعض المشاهد الثقافية والعقدية التي تترجم ضرورة تشكيل المجال حسب بعض الحاجيات النوعية، وذلك من خلال إسناد قيمة رمزية لبعض الأماكن. ويمكن أن نضرب على ذلك مثالا : بكون مواقع الأضرحة والأولياء، التي هي تعبير عن التقوى والورع الشعبيين، ترتبط في الغالب بعلاقة معينة مع خصائص الطبيعة: بجوار منبع مائي، بمدخل أحد الأنفاق، فوق جبل ذو خصائص معينة، أو له ارتباط بحدث معين في الذاكرة الشعبية.
على أن الخاصية المميزة لهذه الجهة من المغرب، وبالتالي مـا يميــز التراث المرتبط بهـا (نستعمل هنا كلمة تراث بمفهومها الواسع)هو أن هذا الأخير تشكل - مقارنة مع مناطق أخرى شبه صحراوية - في ظل ظروف مناخية (ونركز هنا على ظاهرة التصحر) أقل حدة وهو ما مكن سكان الواحات الصغرى والكبرى من الاستمرار في العيش في نفس الأماكن منذ آلاف السنين. ويمكن أن نقدم أمثلة على ذلك: حيث أن مساكن بعض القرى تم بناؤها بجوار النقوش الصخرية والأضرحة ألما قبل-تاريخية (Tumulus ) ( الطاوس, البرابر, البويا...). ثم إننا في معظم الأحوال، نجد قرب كل بئر خيمة للقبائل الرحل وموقع صخري. وقد ساهمت البنية التحتية التي تم إنشاؤها في السنوات الأخيرة (طرق معبدة، كهرباء، إدارة ...) بدورها في استمرار هذا التوزيع في المجال، وفي حالات أخرى عودة الساكنة إلى المناطق التي هجرتها في السابق.
تأسيسا على ما سبق، فإن مفهوم التراث الثقافي هنا، يبقى ذا حمولة غنية ومشبعة بالرموز والدلالات، بحيث يشمل أساسا: العنصر البشري بكل إرثه من المعارف، والتقاليد وأنماط العيش الضاربة في القدم.
يلعب العنصر البشري دورا بالغ الأهمية، سواء في الإمكانيات المتاحة للمحافظة على هذا التراث، أو العكس حيث يمكنه أن يلعب دورا كبيرا في التخريب والتشويه وأحيانا التدمير. فكما هو الحال في كل المناطق شبه صحراوية والواحات، فإننا نجد أنفسنا في مواجهة المشكل الخاص بحماية وتثمين التراث، الذي يظل مجهولا أو غير مقدر.
يجب أن نعترف أولا بأن قيمة هذا التراث الثقافي متجذرة في أصالته، وهي بطبيعة الحال أصالة موشومة جدا، ومن هنا أهمية ودقة بل وحساسية الموضوع، انطلاقا من كون هذه الأصالة، هي تقريبا غير متجددة. إن مكونات التراث، نقوش صخرية، هندسة معمارية، عادات وتقاليد... إن تم تدميرها أو إتلافها، فإنه لا يمكن أبدا إعادة بنائها، وحتى إذا حاولنا، فإن العملية ستكون مصطنعة وبالتالي مشوهة. حماية هذا التراث إذن، تتم فقط من خلال تثمينه وإعطائه القيمة التي يستحقها، وهذا ما يمكن ترجمته إلى واقع عملي، بإقرار تنمية مستديمة بهذه الجهة، مع ضمان الآليات الكفيلة بتفعيلها. في هذا الاتجاه، فإن كلمتي حماية وتثمين (Valorisation et Sauvegarde) ليستا متناقضتين، بل العكس يمكن أن يشكلا مفهومين متكاملين.
نقصد بالتثمين كمفهوم جعل المجتمع ينفتح على مجموعة من الثروات المعرفية والخيرات الحضارية الموروثة. والتي تعد إلى يومنا هذا غير معروفة أو خفية عنه. بفعل وجودها خارج خطوط الطرق وبيان الرحلات والأسفار Itinéraire المعروفة, ( طبعا هناك اعتبارات أخرى لهذا الجهل بقيمة التراث، ذلك أننا قد نجاوز معالم تراثية، ولا نقدر قيمتها الحقيقية).
إن حضور المقاربة الاقتصادية هنا، يبقى أمر طبيعي وواقعي للغاية، ذلك أنكل ما أوردناه من معطيات في السابق يمكن ترجمته داخل كلمة " سياحة ". وهنا نقف عند النقطة الأكثر تعقيدا في الموضوع الذي نحن بصدد تحليله، على اعتبار أن السياحة هي في الغالب مفهوم مناقض للثقافة وربما أيضا لفكرة الحماية التي سقناها سابقا، حيث تبدو لنا السياحة في تجلياتها حركة تدميرية بامتياز كونها تشكل خطرا على ماهية ووجود التراث الثقافي والفني نفسه. بيد أن ذلك لا يكون صحيحا إلا إذا تركنا النشاط السياحي للمبادرة غير الموجهة والمتحكم فيها من طرف الفاعلين السياحيين، يمكن أن نقدم هنا مثالين وجيهين الأول: كون السائح لا يكون مرافقا بمرشد محترف ومطلع بشكل جيد على مقومات التراث ورموزه، بل غالبا ما يستأنس بما يزوده به السائق المحلي. ومن تمة لايمكننا أن ننتظر عودة هذا السائح إلى دياره بمعارف ومعلومات صحيحة عن المواقع التي زارها. المثال الثاني أن بعض المواقع النيوليتية وغيرها نهبت محتوياتها، وتم عرضها للبيع مقابل بضعة دراهم. هناك ظاهرة أخرى لا تقل خطورة على مستوى تدمير المواقع، وإن كانت السياحة لا علاقة لها بهذه العملية. يتعلق الأمر بالمقالع الحجرية المفتوحة على المواقع الصخرية، والتي ينقل منها السكان البلاطات Dalles من أجل بناء منازل وسياجات خاصة بهم.
إذا كان الهدف من حماية التراث والمحافظة عليه هو العمل على تأخير اندثاره، وتمديد استمراره في الزمان، من خلال تحدي عوامل الطبيعة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه وبإلحاح، هو معرفة كيف يمكن استغلال واستثمار هذا الرأسمال الفني والتراثي الذي تمت حمايته وصيانته، بعد أن تكون الأبحاث العلمية قد فرغت من دراسته وتحليله.
إن المتلقي الطبيعي والضمني لكل عملية حماية وصيانة، هو الجمهور وبتعبير أدق المجتمع، ومن تمة فإن السياحة الثقافية هي عملية ممكنة التحقيق والتحقق: وحده انفتاح المجتمع على هذا التراث وانتشار المعلومات وتداولها، ثم معرفة واستلهام القيمة الحقيقية لهذا التراث، كفيل بضمان عدم اندثاره.
يتمتع المغرب بموقع متميز مقارنة مع دول أخرى صحراوية وشبه صحراوية : ذلك أن قربه من أوربا أهم سوق سياحي في العالم، ثم توفره على بنيات تحتية متطورة نسبيا، كلها عوامل يمكن أن تساعد على استقطاب أعداد مهمة من السياح أكثر بكثير مما هو عليه الحال في الوقت الحاضر. لكن في انتظار تحقيق ذلك وهو ما يتمناه ويعمل من أجله الجميع. فإننا نؤكد على أن تمة ضرورة ملحة ومستعجلة لتحيين هذا التراث وصيانته وبالتالي استثماره في أفق الانخراط الجدي والعملي لتحقيق تنمية شاملة ومستديمة.
أما مجالات التدخل فهي متنوعة ويمكن حصرها في النقط التالية:
1) المواقع الخاصة بالنقوش الصخرية والأضرحة النيوليتية (Tumulus ).
2) القصور والقصبات.
3) المواسم والمهرجانات الثقافية والاجتماعية .
المواقع الخاصة بالنقوش الصخرية والأضرحة النيوليتية (Tumulus ): هناك مجال لإنشاء منتزهات أثرية مع الحرص على التنظيم الجيد والعالم الذي تتطلبه هذه العملية : تكوين مرشدين سياحيين متخصصين وعلى اطلاع واسع بمجالات التراث، توفير مجموعة من الوثائق (جداول، بيانات، كتب، صور...). بحيث تكون المنتزهات مؤهلة لتوجيه الزوار وتأطيرهم.
القصور والقصبات : تشكل القصور والقصبات تراثا معماريا ذا حمولة ثقافية واجتماعية غنية بالرموز والدلالات. فالقصر هو عبارة عن تجمع سكاني داخل بناية موحدة محاطة بسور ضخم وعال، تتخلله أبراج مربعة الشكل وله مدخل رئيسي واحد، فضلا عن عدة أروقة مغطاة ومسجد وساحة ودور سكنية موزعة عبر الأزقة. أما القصبة، فهي كذلك سكن محصن، لكنها في ملكية أسرة واحدة قائمة على نظام الأبوة. ويمتد هذا النمط السكني على طول الأودية ووسط الواحات وحتى فوق الجبال. وتعتبر هذه الهندسة المعمارية الترابية نموذجا لتكيف الإنسان مع البيئة المحلية إذ أثرت نذرة الموارد بها ونشوب خلافات ونزاعات بين المجموعات البشرية على نمط هذا البناء.
وإذا كان في حكم المؤكد أن السائح بعد أن تشبع بمقومات السياحة الشاطئية، بات يتوجه أكثر نحو ما يمكن تسميته بالسياحة الاستكشافية في أفق التعرف على ثقافة وحضارة الآخر، فإن ذلك يلزم علينا التعاطي مع هذا الوضع بكثير من الجدية والمسؤولية.
لقد أضحى القيام بجرد دقيق للتراث المعماري والتاريخي مسألة ملحة وفي غاية الأهمية، حيث يتسنى لنا تمييز البنايات والمنشآت التي يجب ترميمها وبالتالي جعلها قبلة للزوار.
المتاحف الجهوية هي الأخرى يمكن أن تلعب دورا بالغ الأهمية، وهي طبعا متاحف مختلفة حسب الخصائص التي تنفرد بها كل منطقة والتي هي في حاجة إلى المزيد من الدراسة والتحليل، على أنه عمليا يمكن تلخيصها فيما يلي: متحف أثري، متحف إثنوغرافي، متحف للتاريخ (لتوثيق تاريخ تجارة القوافل مثلا )...
المواسم والمهرجانات الثقافية والاجتماعية : إذا كانت السياحة الثقافية كما أسلفنا تنبني أساسا على استكشاف الغير من خلال الاطلاع على ثقافته وحضارته، فإن المواسم والمهرجانات الثقافية تشكل مادة دسمة لهذا النوع من السياحة وبامتياز، على اعتبار أنها المرآة التي تعكس بصدق ما تختزنه الذاكرة الشعبية من حمولة ثقافية وتراثية متجذرة في أعماق التاريخ. لذلك فإن المطلوب هو القيام بمقاربة علمية وموضوعية للطريقة التي ينبغي اعتمادها في إحياء هذه المواسم والمهرجانات، وهو ما نلمسه فعلا من خلال المجهودات التي يبذلها المسؤولون على الإقليم في الآونة الأخيرة، في سياق تنظيم المهرجان الإقليمي الأول للتراث، وكذلك إنشاء موقع خاص على شبكة الانترنيت : وهو موقع يتضمن أبحاث ودراسات جدية حول التراث الثقافي والمعماري بالإقليم. وهي خطوة يمكن أن تتلوها الخطوات التالية، وذلك بتشارك وشراكة مع جمعيات ومنظمات غير حكومية وطنية ودولية :
القيام بدراسات وأبحاث علمية قصد التعريف بمقومات التراث الثقافي، والعمراني الذي تزخر به المنطقة مع اتخاذ التدابير اللازمة للمحافظة عليه واستثماره.
* وضع جرد للمتلكات الثقافية الثابتة والمنقولة باعتبارها جزءا من التراث الثقافي والفني والانثوغرافي.
التعريف بالمقومات الأثرية والاتثوغرافية وما تعكسه من حمولة تاريخية مشبعة بالرموز والدلالات، وذلك بواسطة منشورات ومجلات متخصصة ومعارض وتظاهرات عامية مختلفة.
العمل على تدوين التراث : من عادات وتقاليد وأعراف وفنون وحرف أصيلة... مع التعريف بطابعها الأصيل.
إشراك الجماعات المحلية في دراسة الحاجيات وإعداد الاستراتيجيات الثقافية الملائمة. في ختام هذا التحليل أود أن أعبر عن اقتناعي الكبير بضرورة البحث عن أكبر مساحة ممكنة للالتقاء والتقارب بين السياحي والثقافي. وهو التقارب الذي يجب أن يؤسس له قبل كل شيء من خلال دراسة التراث وتنظيمه من طرف الفاعلين الثقافيين، دون أن نغيب عن أذهاننا كون السياحة، سيما السياحة الثقافية، باتت تعرف توسعا وانتشارا كبيرين، وهو ما يجعل المغرب ملزما شأنه في ذلك شان إيطاليا، فرنسا وإسبانيا... بأن يجد الصيغة الملائمة لتحقيق التصالح بين السياحي والثقافي، وبالتالي توسيع هامش التلاقح والتقارب بينهما، وهو ما يمكن استثماره لا محالة في تحقيق تنمية شاملة ومستدامة.
الدكتور مصطفى تيليوا