عبد الرحمن القاسمي
مما لاشك فيه أن الاهتمام بالتراث المغربي عامة والتراث الأمازيغي خاصة،سيسمح بتكوين نظرة متكاملة تقفز عن السطحية التي لطالما عومل بها.في اطار هذا المنحى تأتي هذه المساهمة المتواضعة ( عبر سلسلة مقالات ) لالقاء الضوء على جوانب مميزة لمجتمع تودغى خاصة والمجتمع الواحي المغربي عامة.
يقصد بالواحة مجال أخضر في بيئة قاحلة،تتوفر على امكانيات الري مما يجعلها قابلة للزراعة واستقرار السكان.وغني عن البيان أن واحة تودغى لم تكن منذ نشأتها عبارة عن مركز حضري،بل أن التاريخ والشواهد الحالية تؤكد أنها كانت عبارة عن مجموعات قصور { اغرمان } متقاربة فيما بينها وتتموضع على ضفتي وادي تودغى وعلى طول الواحة المعروفة بنخيلها وأشجارها المثمرة.ولاغرو فهذه القصور تتفاوت من حيث المساحة وعدد السكان ناهيك عن أهميتها الفلاحية،بينما تتشابه الى حد كبير من حيث طبيعة السكن ونمط العيش.أقف عند هذا الحد وأتساءل،ما عناصر المشهد بواحة تودغى؟
ان جولة ميدانية على طول وادي تودغى تكشف للمرء مدى غنى الموروث الحضاري لمجالات تودغى الجغرافية، ناهيك عن تنوع عناصر المشهد بالواحة ( السكن التقليدي ، أشجار النخيل والزيتون ، استغلاليات ذات حجم صغير مخصصة للزراعة المعيشية ...).
- السكن التقليدي / المعمار المبني بالتراب : ان السكن المميز لواحة تودغى هو السكن داخل القصر أو مايسمى محليا ب {اغرم}.والقصر عبارة عن خلية سكنية تضم العديد من المنازل و الأسر التي يجمعها تقارب وتشابه أنماط العيش وأيضا بعض الترابطات الاجتماعية ذات الأصول القبلية المتعددة.وللاشارة فان القصر {اغرم} يختلف عن الأشكال الأخرى من السكن القروي المتجمع من مثيل القصبة أو {تغرمت} رغم التشابه في بعض المواصفات.فالقصبة مثلا تحتضن عشيرة أو أسرة أبوية كبيرة عكس القصر الذي يجمع بين مجموعات بشرية مختلفة،ناهيك عن اختلافهما من حيث دوافع النشأة.
يعتبر المدخل الرئيسي للقصر { ايمي ن اغرم } أحد عناصر القصر الأساسية،ذو حجم كبير وبابه مصنوع من مواد خشبية توفرها البيئة المحلية.كان في الماضي يغلق من الغروب الى الشروق في وجه السكان بسبب ظروف الأمن الغائبة.وبالمثل يتوفر القصر على أسوار عالية تحيط بالقصر من كل الجهات لدورها الدفاعي قديما،أما الأبراج فهي تحتل زوايا القصر وذات أشكال عمودية شبه مربعة تضيق نحو الأعلى وهي مخصصة للمراقبة.والى جانب المنازل {تدروين} نميز في اطار بنية القصر الداخلية بين ما يسمى بالممر الرئيسي { لعلو أختار} والذي يعتبر أساسي للدور الذي يلعبه في مرور السكان وكذلك الماشية والذواب،وعرضه في غالب الأحيان أكبر من الدروب الثانوية.
ان هندسة القصر المعمارية والتنظيمية تعكس من وجهة نظري المتواضعة عبقرية الانسان المحلي،خاصة اذا ما وضعنا في الحسبان أن أغلبية المنازل داخل القصر تتجاوز الطابقين من جهة وأن البناء يعتمد على مواد يوفرها المحيط البيئي المحلي بعيدا عن الارتباط بمجالات بعيدة عن المنطقة من جهة أخرى.فالأساس يبنى بالحجارة في حين أن الجدران تبنى بخليط التربة والحجارة الصغيرة والتبن {أليم}،في حين يتزخرف السقف بجدوع النخيل والقصب { أغانيم}،وهو ما يجعل من القصر سكن مكيف طبيعيا يوفر نوع من الدفئ شتاءا والبرودة صيفا.
ان السكن داخل القصر قد لايحمل بالنسبة للبعض أية دلالات خاصة، ماعدا الدلالات المرتبطة بتلبية حاجياتهم الحيوية ( النوم ...).غير أن هذا المكان يتحول بحكم التعايش والتفاعل الى مجال يضم أفرادا تربطهم علاقة القرابة وبالتالي التجارب التفاعلية ذات الصبغة الوجدانية والتواصلية.فالقصر وشكله المعماري ووجود باب واحدة أو اثنتين على أكثر تقدير يوحي بأننا لما ندخله ندخل الى دار واحدة كبيرة،فمثل هذا التمثل الرمزي يلعب دورا مهما في ارتباط الأفراد بالقصر لأن الخروج منه يعني الاغتراب والبعد عن العائلة الكبيرة.وكيفما كان الحال،فان المعمار المبني بالتراب يشكل اطارا ماديا ومعنويا فهو بمثابة الارث التاريخي والثقافي والاجتماعي،انه تعبير عن التنظيمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعتمد عليها المجموعة البشرية في حياتها.بيد أن التطور الديموغرافي السريع وعوامل أخرى اقتصادية وثقافية جعلته يتعرض لتحولات هامة تمثلت في تفكك بنيته الأساسية مما نتج عنه بروز مجتمع واحي يتأرجح بين الحفاظ على ماهو تقليدي من جهة،والالحاح والتوجه نحو العصرنة من جهة أخرى.
ومن المؤكد أن بعض القصور لاتزال تحافظ على بعض من معالمها العمرانية الرائعة – على الرغم من مظاهر العصرنة التي اجتاحتها - في حين نجد قصور أخرى تداعت واستسلمت لقدرها في غفلة منا، وأطلالها لربما تبكي حالها وتشكو للافراط والنسيان الذي لحقها وطالها فأزمت نفسيتنا معها.
والى جانب السكن التقليدي / المعمار المبني بالتراب كعنصر مميز للمشهد بواحة تودغى نجد :
- الاستغلاليات الزراعية ذات الحجم الصغير والتي تزين بمنتوجاتها المعيشية المتنوعة ضفتي وادي تودغى.فعلى الرغم من ضيق المساحات المخصصة للزراعة ( بنية المنطقة التضاريسية / البنية العقارية المعقدة / وعامل الارث السلبي في تقزيم الاستغلاليات...)،فان فلاح المنطقة استطاع أن يتخطى كل العقبات واحتفظ بنمط زراعي قار ومتوازن حسب الفصول.وهكذا يمكننا التمييز بين منتوجات زراعية من قمح {ييردن} وشعير {تيمزين} وخضروات من بصل {أزاليم} وقرعة {تاخصايت} ... ناهيك عن بعض المزروعات المخصصة كعلف للماشية.
- أشجار النخيل والزيتون : لقد كانت غراسة النخيل من الأنشطة الفلاحية التي مارسها فلاح الواحة على نطاق واسع منذ القديم ، تبعا للأهمية التي كانت تلعبها في حياة سكان المنطقة.فقد كان لما توفره من غذاء وحطب وخشب أثره البالغ في الدفع بالمزارعين الى الاهتمام بها.ان فلاحة الواحات تعتمد أساسا على غراسة النخيل،فالثمور{تييني} مثلت الغذاء الرئيسي للسكان.وحسبنا فهي غنية تضم مابين 70 و 80 % من السكريات وغنية بالأملاح المعدنية.نفس القول ينسحب عن أشجار الزيتون والتي توفر الزيت الصحي الطبيعي سواء للأكل أو الطبخ.
والفلاح اذ يلجأ الى هذا التنويع في الانتاج،فهو يراعي الضغوط الطبيعية المختلفة فيراهن على التنوع في الانتاج وعلى الاختلاف الزمني لنضج مختلف الغلات.بمعنى اخر انه يسعى الى تحقيق التكامل بين الغلات كما يسعى الى استمرار مداخيله طيلة السنة متحديا في ذلك قساوة المناخ ووسائل الانتاج التقليدية وصغر الاستغلاليات. وللقول فقد ارتبط فلاح الواحة أيما ارتباط بطبيعته ومجاله وتبادلا الصراء والضراء فحقق لذاته مستوى عيش الكفاف.