سوزان ابراهيم
*أنت لا تعتبر الجوائز معيارا للكتابة، لكن لا يمكن إنكار دورها في وصولك للبوكر وفتح الباب لروايتك نحو العالم؟!
- أنا لم أبدأ مع البوكر، هذه حقيقة، ولديّ رواية هي "العطر الفرنسي"، ترجمت إلى الفرنسية قبل البوكر، ونالت رواجا لدى القراء بالفرنسية، لكني أعترف بأن شهرتي الطاغية لم تتحقق إلا بعد البوكر، الذين لم يكونوا يعرفونني عرفوني بعد البوكر، وروايتي "صائد اليرقات" تترجم الآن إلى عدة لغات، وستصدر قريبا بالإنكليزية والإيطالية. لكن أيضا وجدتني البوكر صاحب تاريخ كتابي وصاحب تجربة طويلة، وهذا ما ساعد على الانتشار. وأعود لأقول لك إن الجوائز ربما تفتح الأبواب المغلقة، لكنها ليست بالضرورة حُجّة على جودة الكتابة، ولا تستطيع أن تصنع كاتبا من العدم، عبده خال أيضا من الذين وجدتهم البوكر يحملون تاريخا مبدعا، وذهب الناس إلى إعادة اكتشافه وقراءة أعماله التي لم يكونوا يعرفونها.
*تقيم خارج السودان ولا تدري ماذا يحدث بالنسبة إلى الثقافة في الداخل، لكن لم يمنع أحد كتبك، وتؤكد أنك لا تعرف ماذا يحدث في الحياة الثقافية في السودان. لماذا تبقى بعيدا عن المشهد الثقافي السوداني، ألا تشعر بتقصير ما تجاه أجيال جديدة من الأدباء هناك؟
- أقيم خارج السودان بسبب الرزق الذي لن تمنحني إياه الكتابة، وليس في كتبي ما يمنع تداولها في السودان، على العكس أحظى باحترام هناك، ولدي قاعدة من القراء، لكني لم أنقطع أبدا عن السودان، وأذهب إليه في كل عام لقضاء إجازتي السنوية، وفيها أحتك ببعض المثقفين والمبدعين. لكن من الصعب الإلمام بالمشهد الثقافي كاملا، وإن كانت الإنترنت قد سهلت المعرفة، وإمكان أن أتواصل عبرها.
وأستطيع أن أؤكد لك أنني أعرف أسماء كثيرة في السودان، وقرأت نتاج الكثيرين، لكن المشهد كاملا لن أستطيع الإلمام به. هذا ليس تقصيرا مني ولا من أحد، وحتى الذين يقيمون بالداخل لديهم مشاغلهم التي تمنع تلك الإحاطة الكاملة بكل شيء.
*"أرض السودان.. الحلو والمر" روايتك الأحدث وتستعرض علاقة الشرق بالغرب، وتحكي عن رحلة الشاب البريطاني جلبرت أوسمان إلى السودان في ثمانينات القرن التاسع عشر. هل أردتها رحلة معاكسة لرحلة بطل الطيب صالح؟
- ربما، هنا البطل يأتي لأرض السودان وليس العكس، البطل يتأثر بثقافة السودان وليس بثقافة الغرب، الرواية ليست رحلة من أجل التعليم والرقي، مثل رحلة مصطفى سعيد "بطل الطيب صالح"، ولكنها مغامرة قام بها شاب قبل التحدي من أحد أصدقائه، ومن خلال تلك الرحلة كتبت كل شيء عن السودان، أرضه، ناسه، طقوسه، عاداته الجميلة والسيئة، بساطة أهله، سلوك المستعمر، ولعل النهاية أيضا صادمة ولا يتوقعها الكثيرون.
*تستفيد من حس الفكاهة والسخرية في أعمالك الروائية فمعظمها مفعم بسخرية كبيرة، كما تقول، كما في: "العطر الفرنسي" و"زحف النمل"، هل هي الكوميديا السوداء، أم هو تجلٍّ لإحساس بمرارة الواقع، أم وسيلة لشد انتباه القارئ؟
- كتابتي للنصوص ليست متعمدة، أنا أكتب النص حين أعثر على بداية أعتبرها جديرة، وأفاجأ بأن النص يقودني، فتأتي أحيانا تلك السخرية، كما في "صائد اليرقات" و"زحف النمل"، كل نص يحمل سمته، سواء أكانت جديدة مفرطة كما في "مهر الصياح" أو سخرية مسيطرة كما في "زحف النمل".
ولا أنكر أن القارئ شدته "صائد اليرقات" و"زحف النمل" و"العطر الفرنسي" أكثر، لكني لا أتعمد بالفعل، وأعتقد أن كل نص مهما كانت طريقة كتابته يجد قارئه في النهاية.
*هل ترى أن المتعة شرط أساسي في أي عمل أدبي؟
- بالنسبة إليّ نعم. أهم شيء أسعى للانتباه إليه هو إحساسي بالمتعة أثناء الكتابة، أو عدم إحساسي بها، وبالتالي نجاح النص أثناء كتابته أو عدم نجاحه.
متعة الكاتب أثناء كتابة نصه تنتقل إلى القارئ، وأنا كقارئ أتجاوب مع النص الذي يمتعني، وهناك أعمال كبيرة ومهمة لكتاب لم أستمتع بها وتركتها، أو فلأقل مللت منها، ولم أستطع إكمالها. المتعة مهمة لي ككاتب وقارئ.
*كتبت روايتك الأولى "كرمكول"، ودرت بها على الناشرين، حتى نشرها لك الشاعر الراحل كمال عبد الحليم في دار الغد التي كان يملكها، ودائما تتذكر ساعة الرولكس الغالية التي رهنتها لتدفع كلفة النشر، نجحت "كرمكول" وقدمتك للقراء بشكل جيد. أين هي ساعة الرولكس اليوم؟
- سؤال لطيف، لقد استمرت معي ساعة الرولكس زمنا بعد ذلك، وسافرت بها إلى قطر عام 1993 لأبحث عن عمل، وظللت مدة ستة أشهر أنتظر أن يتم تعييني طبيبا في أحد المستشفيات، ولم يكن لي مورد سوى تلك الساعة الغالية. وقد شعرت بالأسى وأنا أعرضها للبيع في أحد محلات الساعات، وقيمتها ثلاثة آلاف دولار كانت كافية حتى أستقر. سلمتها للمحل وندمت بعد ذلك، لأن تعييني تم بعد بيعها بأسبوع واحد، وعزيت نفسي بأنها أدّت واجبها كاملا.
*يؤكدون أن أهم استعمالات الإنترنت دمقرَطة الثقافة، مع أن ثمة حربا عالمية بين قوى كبرى تفعل كل شيء لخنق كلّ شيء، وتتبنّى نفس الذرائع لحبس كل مبادرة. كيف تنظر إلى دمقرطة الثقافة عبر الانترنت؟
- أؤمن بذلك إلى حد ما، الإنترنت أتاحت للكل أن يفعل كل ما يخطر بباله، ولن تنجح أي قوى خفية في الحد من ذلك، كثير من المدونات نجحت وتحولت محتوياتها إلى كتب، وما زال الناس ينشئون الصفحات ويكتبون فيها كل ما يخطر على بالهم، وإن كان ذلك قد أدى في نهاية الأمر إلى ظهور كتابات موهومة، الكل يتوهم شاعريته أو أنه يكتب شيئا ذا جدوى.
*الحرية المطلقة تعادل الجريمة، كما قال هيغل، فالحرّية الممكنة الآن هي حريّة المعرفة والمقاومة والتمرّد والصراع ضد الاستبداد. هل توجد على الأرض حرية بهذا المعنى؟ هل الحرية نسبية؟
- الحرية دائما نسبية، ولا توجد حرية كاملة، حتى في البلاد التي تنادي بها بعيدا عن الأعراف، الإنسان حر في أن يكتب ويقاوم، ويخترع الطرق التي يظنها صالحة لمشي قدميه، لكنه ليس حرا في تخطيه لحرية الآخرين، بمعنى أن يتوقف تماما عن الحرية حين تكون تكبيلا لآخرين. تلك الفتاة التي تعرت مثلا ونشرت صورها بدعوى أنها حرة، لكن في المقابل كيف سيفسر الآخرون حريتها؟ كيف ستعامل داخل تلك الحرية التي مارستها؟ الموضوع يطول.
* يجب أن يكون لك أسلوب خاص لتكتب، هل تعمل على الأفكار أم على الأسلوب؟ أيهما أكثر أهمية؟
- الأفكار والأسلوب معا.. أسلوبي انتهيت من ترسيخه منذ زمن، لكن الجديد هو الأفكار، كل نص لي يحمل فكرة ما، يسعى لترسيخها عبر الأسلوب الراسخ، لا أكرر نفسي مطلقا، ولا أتعرض لفكرة تعرضت لها قبلا، ولذلك تجدين كل رواياتي تحمل جديدا، هذا لا يميزني وحدي ولكن الكثير من الزملاء يسيرون على نفس النهج.
*يتطرق الفيلسوف رينيه جيرار في كتاب له إلى الأحداث الأكثر سخونة في العالم اليوم، ومنها ظاهرة التطرف الديني واستعمال العنف ويفسر ذلك بأنه نابع من أسباب كثيرة جيوسياسية ودينية واقتصادية وإنسانية، إنه يعزوه إلى الرغبة في ما يرغبه الآخر الأمر الذي يحوّل البشر إلى متنافسين، فيولد العنف وينتج عن العنف الإرهاب الذي يهدد المجتمعات البشرية بالدمار والخراب. هل هي رغبة الأول في ما يملك الآخر فقط؟
- لا، التطرف في كل شيء وليد دوافع محددة، تولده وتحوله إلى نهج، المسألة في البداية هي فلسفة العقل البشري نفسه واستعداده لتقبل التطرف أو عدم تقبله، هناك أشخاص يتعاملون مع الحياة برقة شديدة، وهؤلاء لن يتطرفوا في أي زمن، وهناك من يتعاملون بعنف حتى داخل أسرهم وهؤلاء يمكن أن يتطرفوا في أي يوم، ولا أعتقد أن ثمة جهودا ستنجح في محو الاعتقاد البشري أبدا، في كل زمن سيخرج متطرفون دينيون وسياسيون واجتماعيون، يحاولون فرض قوانينهم.
*تقول: "في العالم الثالث، حيث الحقوق المشروعة ترف مستحيل"، إذن كيف ومتى نبني عالما مختلفا، وسط كل التشابكات السياسية والثقافية والدينية في مجتمعات هذا العالم الثالث؟
- أقول بكل أسف إن ذلك لن يحدث، لقد صنف العالم الثالث أو وجد لتكون فيه الحقوق المشروعة ترفا مستحيلا، نحن بحاجة لمئات السنين كي ننهض، وأول شيء نحتاجه هو التلهف لتلقي المعرفة.
*من أهم أهداف المثقف أو الكاتب أن يتفاعل مع قضايا وطنه ومجتمعه، من هذا المنطلق كتبت أيضا رواية اسمها "تعاطف" صدرت منذ فترة وجيزة، فيها تحدثت عن الثورات العربية التي تجري الآن في الوطن العربي. بعيدا عن الرواية كيف تقيّم "الربيع العربي"؟
- الثورات العربية التي اصطلح على تسميتها الربيع العربي خطوة هامة لترسيخ واقع سياسي ومجتمعي جديد في بلاد كانت محكومة بقبضات حديدية، إنها صياح المهمشين الذي وصل أخيرا، لكن بالمقابل علينا الحصول على مكاسب، والحفاظ عليها، ليس إنهاء حكم دكتاتوري كفاية للتهليل، ولكن كيف نعيش بعد ذلك؟ إنها دروس تحتاج إلى فن وحكمة لتلقيها، وربما يأتي يوم نفخر فيه بحق أننا صنعنا ربيعا مدهشا.