سوزان ابراهيم
*كما الآداب الأخرى فإن المشهد الثقافي السوداني مُصاب بأزمات مجتمعية عديدة، لكن الاختلاف بين الأدب السوداني وبقية الآداب الأخرى يأتي من تسلّط الأزمات الفردية الناتجة عن الأزمات المجتمعية الكبرى فالمثقف أوالمبدع السوداني أكثر حساسية من غيره تجاه مثل هذه الأزمات، هناك أيضا هاجس التهميش الذاتي حيث الإحساس بتدني تقديره لذاته، وهناك العكس تماما، أي تضخم الأنا التي لا تساعده على التأقلم والتكيّف مع الواقع الاجتماعي بشكل منسق، هل تتفق مع هذه الرؤية أو مع هذا التقييم؟
- هذا لا يخص السودانيين وحدهم، الأزمات موجودة في كل مكان، ومشكلة ضيق العيش وازدحام المبدع بأعباء الحياة، مما يقلل من نتاجه، موجودة في معظم مجتمعاتنا العربية، وبالنسبة إلى الشعور بتدني الذات، لماذا هذا الوصف؟ لسنا أقل من غيرنا، لنشعر بتدني ذواتنا، وبالنسبة إلى تضخم الأنا، على العكس، ما زال السودانيون تحت ظل التربية الصوفية، ومن أهم سماتها التواضع، لم أسمع بكاتب أو شاعر سوداني متضخم الأنا أبدا، ولو احتككت بالمجتمع السوداني لعثرت على نماذج بسيطة وسهلة في التعامل بصورة محيرة، ليس الأمر منصبا على الكتابة فقط، ولكن حتى لدى المسؤولين في الدولة، ونجوم الغناء، وغيرهم.
*ثمة فسيفساء ثقافية اجتماعية في السودان، هل استفاد الأديب السوداني من ذلك؟ وكيف بتقديرك تعامل معها؟
- طبعا استفاد كثيرا، وقد قلت لك إن تنوع هذه الثقافات في بلد واحد أنتج أدبا متنوعا داخل الإطار العام المميز للأدب السوداني، بيئة الشرق كتب عنها، وكذا بيئات الشمال والجنوب، شخصيا استفدت من تلك الفسيفساء، وكتبت روايات متنوعة، بعضها من الشرق وبعضها الآخر من الجنوب والوسط.
*شعرت بالضيق من حدوث الانفصال بين الجنوب والشمال، لهذا كتبت روايتك "رعشات الجنوب" التي تتحدث عن العلاقة بين الذين يعيشون في الشمال والجنوب؟ كيف تتعامل مع توصيف وتفريع الأدب السوداني إلى أدب الغابة وأدب الصحراء؟
- الغابة والصحراء مدرسة كتابية، أو تنظير روّج له بعض مبدعينا في الستينات من القرن الماضي، مثل النور عثمان، ومحمد عبد الحي، ومحمد المكي إبراهيم، شخصيا لم أنظر إلى كتابتي من نواحٍ تنظيرية، أكتب ما أراه مناسبا للكتابة.
و"رعشات الجنوب" كتبت قبل حدوث الانفصال، لكن مع إرهاصاته، وفيها أمسكت بالمشكلة من جذورها، مشكلة الجنوبي والشمالي الذي يعيش في أرضه بشيء من التعسف، المشكلة العرقية، التي لم تتح لحب مثل حب النحات تايلور تيلا، والعربية رضيانة الخضر، أن ينمو إلى رباط مقدس، مشكلة التجارة التي يحتكرها أهل الشمال، والمشكلة الكبرى التي خلقها المستعمر وتركها تنمو حتى بعد رحيله.
كل ذلك قاد لتلك الرعشات، رعشات الجنوب، وقاد في ما بعد لانفصال الجنوب وتكوين دولته التي يراها تناسبه. لا نستطيع أن نقول إننا أضعنا الجنوب بسبب تعقيدات حديثة، لقد كان الأمر قديما جدا.
*في "رعشات الجنوب" ما تؤاخذ عليه هو هذه النهايات السلبية التي تنسحب على معظم شخصيات الرواية، الرئيسية منها والهامشـــية، فتتراوح بين الموت والاعتقال والانتحار والتسوّل والتشرّد والفشل والهرم والفرار.. ألا يحتاج القارئ إلى فسحة أمل؟
- النص أراد مني ذلك، كل الشخصيات داخل النص كانت تملك طموحها، لكنها لا تملك قرارها، فرابح مديني تاجر الحدود كان ثريا وناجحا، وأضاعه الوهم، وعمبابا صاحب السيرك كان محتالا، ويجب أن يدفع ثمن احتياله، وكذا الحال بالنسبة إلى ريضانة وابنها الجريح، والنحات تايلور، حيث تذهب مصائرهم إلى حيث أراد النص، يقولون لي دائما لماذا تركت الجريح يتيما وترفضه الفتاة الوحيدة التي أحبها، ولماذا لم تترك أملا لتايلور حتى يتزوج حبيبته؟ هذه أشياء ليست بيدي، ودائما ما أضع النهاية التي يسوقني إليها النص، لكن ليست هذه طبيعة كتابتي في الغالب، هناك أعمال ذات نهايات مبهجة.
*هل تؤمن بالدور التطهيري للأدب على غرار ما فعل المسرح اليوناني؟
- الأدب مهم بلا شك، مهم في مسألة التنوير وبناء المخيلة، لكن لا أعتقد أن له دورا كبيرا في مسألة التطهير أو غيرها، الأدب ليس حاكما على أحد ليصدر قرارات واجبة التنفيذ، ودوره قد يكون مؤثرا للذين يحبونه، فقط.
* تميل عادة إلى كتابة الرواية التاريخية، ولكنك كما تقول: "لا أكتب التاريخ كما يكتبه بعض الناس، بل أتخيله فأدرس الفترة التي ستجري فيها أحداث روايتي"، هل تريد كتابة التاريخ بصوت أناس القاع، أم هو جهد للتأريخ بعيدا عن تاريخ المنتصرين؟
- نعم، لا أملك تاريخا موثقا ولا شخوصا حقيقيين أعمل على إعادة إنتاج سيرهم، الذي أكتبه تاريخ مواز للتاريخ الحقيقي، والذين أكتبهم ربما يكونون شخوصا معاصرين زرعوا في أزمنة قديمة، الذي يحدث هو أن تتبنى إحدى الفترات التاريخية، وروايتي تكون مسرحا لها، ولا تستطيعين أن تشيري إلى أي شخص داخل النص بأنه ذلك الشخص الذي ورد في كتب التاريخ. هذه طريقة ربما تعجب البعض وربما لا تعجب البعض الآخر. وما يبهجني أن القراء يظلون يبحثون عن الحقيقة داخل النص المتخيل، مثل أسماء لكتب قرأها جلبرت أوسمان في "أرض السودان- الحلو والمر"، ومثل شخصيات "توترات القبطي" كلها، وكذا شخصيات روايتي الأهم: "مهر الصياح". هذا ليس فرارا من شيء أو خوفا، ولكنها طريقة كتابة كما وضحت لك.
.