معهد العربية للدراسات والتدريب
شكلت المنطقة المغاربية منطلقاً للثورات العربية؛ بعد أن تمكّن الثوار والمحتجون من إسقاط النظام في تونس وليبيا؛ فيما عمدت دول مغاربية أخرى كالمغرب والجزائر إلى إعمال إصلاحات سياسية ودستورية هامة؛ وإذا كانت هذه التحوّلات تحيل إلى دعم الانتقال نحو الديمقراطية وبناء دول الحق والقانون وإرساء علاقات جديدة بين الحاكمين والمحكومين مبنية المواطنة والتواصل واحترام الحقوق والواجبات؛ فإنها تدعم توفير شروط اجتماعية تدعم الاندماج الاجتماعي المغاربي؛ بما يوفر قاعدة اجتماعية متينة لبناء اتحاد مغاربي واعد في عالم متغير سمته التكتل والعمل الجماعي.
إن ما يجري في المنطقة المغاربية والعربية من حراك مجتمعي يبرز الرغبة العارمة في بلورة تعاقد جديد بين المواطن والسلطة بصورة مبنية على الممارسة الديمقراطية واحترام الحقوق والحريات وتداول السلطة بشكل سلمي بعيداً عن مظاهر الشمولية والاستبداد.
ومن منطلق أن فاقد الشيء لا يعطيه، نطرح ثلاث فرضيات؛ الأولى مفادها أن أنظمة لا تؤمن بالديمقراطية في ممارساتها وسلوكاتها؛ لا يمكن لها أن تبني تكتّلاً ديمقراطياً وقادراً على مواجهة التحديات الراهنة في أبعادها ومظاهرها الداخلية والخارجية؛ فالمدخل الديمقراطي هو الكفيل بدعم بناء الاتحاد على أسس متينة.
والثانية مفادها أن بناء الاتحاد المغاربي هو مشروع مجتمعي يفترض أن تنخرط فيه بصورة تشاركية كل من الدولة ومختلف الفاعلين من مجتمع مدني وأحزاب سياسية ونقابات وجامعات ونخب مختلفة.. بصورة تدعم الاندماج المغاربي على المستوى الأفقي يسمح بانخراط جميع مكونات المجتمع ويدفع صانع القرار إلى اتخاذ خطوات حقيقية وفعلية على طريق الاندماج..
والثالثة تحيل إلى أن بناء تكتل مغاربي قوي ومنفتح على العمق المجتمعي لدول المنطقة؛ سينعكس بالإيجاب على أداء وفعالية النظام الإقليمي العربي برمته وعلى نجاعة وقوة جامعة الدول العربية ذاتها؛ طالما أن ميثاقها يدعم قيام هذه التكتلات الفرعية.
أبرمت معاهدة الاتحاد المغاربي بمدينة مراكش في السابع عشر من شهر فبراير لسنة 1989؛ وقد رافق هذه الخطوة بروز آمال وطموحات وانتظارات واسعة في أوساط الشعوب المغاربية؛ باتجاه تحقيق الوحدة والاندماج؛ وتجاوز مختلف الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. التي ترزح فيها أقطار المنطقة.
الظروف السياسية الداخلية ساهمت في تدهور العلاقات المغاربية
ومنذ ذلك الحين؛ شهد مسار الاتحاد مدّاً وجزراً؛ تبعاً لطبيعة العلاقات القائمة بين مختلف أعضائه؛ والتي تنوعت بدورها بين التناغم تارة والتوتر تارة أخرى؛ بفعل خلافات عابرة أو تاريخية؛ بالإضافة إلى الإكراهات والمشاكل التي فرضها الواقع الدولي المتحول في كثير من الأحيان.
وعلى عكس بعض التجمعات الإقليمية التي استثمرت التحولات الدولية لصالحها ونجحت في بناء تكتلات وازنة تليق بحجم التحديات العسكرية والسياسية والاقتصادية.. التي فرضها الواقع الدولي المتحول؛ وبعد مرور زهاء عقدين من الزمن على تأسيسه؛ جاءت حصيلة الاتحاد هزيلة وصادمة؛ بفعل جمود مؤسساته؛ وعدم تفعيل مختلف الاتفاقات المبرمة؛ وعدم اتخاذ مبادرات شجاعة على طريق الوحدة والاندماج.
لقد أسهمت الظروف السياسية الداخلية في تدهور العلاقات المغاربية البينة، كما أن بنية الاتحاد وآلياته تأثرت بدورها بصورة كبيرة بفعل هذه جمود الحياة السياسية في المنطقة.
وفي ظل هذه الأوضاع المأزومة؛ أعادت الاحتجاجات و"الثورات" الشعبية العارمة التي شهدتها مختلف دول المنطقة الاعتبار والأمل للشعوب نحو غد أفضل. وإذا كانت هذه التحولات تتجه نحو اعتماد إصلاحات جذرية تروم تحقيق الديمقراطية والتنمية داخليا؛ فإنها تحيل أيضا إلى أن واقعا إقليميا جديدا يمكن أن يتشكّل إذا ما تم استثمار هذه التحولات والفرص للخروج من المأزق الذي تعيشه مختلف هذه الأقطار في عالم متغير؛ خاصة على مستوى مواجهة تحديات العولمة؛ واستثمار الإمكانيات البشرية والطبيعية والاقتصادية للدول العربية في بناء نظام إقليمي متطور ووازن وإيجاد موقع ضمن القوى الدولية الفاعلة..
والواقع أنه بجانب العوامل البنيوية التي حالت دون تطور الاتحاد وعلى رأسها ضعف التبادل التجاري بين بلدانه الخمسة؛ هناك أيضاً عامل الإرث الاستعماري الذي تمخضت عنه مشاكل حدودية بين المغرب والجزائر؛ بالإضافة إلى تداعيات قضية الصحراء التي حالت دون تطوير العلاقات المغربية – الجزائرية؛ بل وأسهمت في تأزيمها، ثم غياب مشروع مجتمعي واقتصادي مغاربي واضح المعالم؛ ودخول بعض دول الاتحاد في أزمات سياسية داخلية أثرت في استقرارها (الجزائر في بداية التسعينات من القرن المنصرم؛ موريتانيا إبان حدوث عدد من الانقلابات السياسية) علاوة على عدم استثمار المكون البشري بالمنطقة لخدمة هذا التكتل الإقليمي.
وعلى الرغم من الإكراهات والصعوبات المطروحة أمام بناء الاتحاد المغاربي؛ فإن الظرفية المحلية والإقليمية والدولية أصبحت تفرض التكتل والاندماج؛ فعلاوة على التهديدات والضغوط والتدخلات السياسية والعسكرية الخارجية التي أصبحت تتعرض لها الكيانات الدولية الضعيفة في كل حين؛ فإن العولمة بكل تجلياتها وأبعادها؛ أصبحت تفترض العمل الجماعي لمواجهة تداعياتها الجارفة.
كما أن الثورتين اللتين شهدتهما كلّ من ليبيا وتونس بالإضافة إلى ما تشهده بعض دول المنطقة من إصلاحات سياسية وحراك مجتمعي؛ يفرضان اتخاذ قرارات شجاعة كفيلة بردّ الثقة إلى المجتمع؛ من خلال سياسة خارجية ديمقراطية تستمد مقوماتها من مصالح الشعوب المغاربية ورغبتها في التواصل وتحقيق الاندماج..
إن ترسيخ الممارسة الديمقراطية داخل الأقطار المغاربية وفي ضوابط وممارسات الاتحاد؛ يعدّ أحد المداخل الرئيسية والهامة على طريق بناء الاتحاد على أسس متينة.
وبالاستئناس بتجارب دولية رائدة في هذا الشأن؛ يمكن القول إن لممارسة الديمقراطية هي التي دفعت بمجمل الدول الأوربية إلى نبذ خلافاتها التاريخية الكبرى؛ واستحضار مصالح شعوبها الاستراتيجية لتجعل من الاتحاد الأوربي نموذجا رائدا في الاندماج والوحدة.
كما سمحت باستثمار الجهود الأفقية التي باشرتها مختلف مكونات المجتمع الأوربي من إعلام ومجتمع مدني وجماعات ووحدات ترابية على طريق نبذ الخلافات السياسية والتاريخية؛ والانفتاح على المستقبل وتشبيك العلاقات التجارية والاجتماعية والثقافية؛ بصورة فرضت على صانعي القرار مجارات هذا التوجه العارم نحو الوحدة والاندماج.
وتعود الوضعية المأزومة للاتحاد المغاربي في أحد أهم أسبابها إلى عدم وجود أرضية ديمقراطية صلبة منفتحة على عمق المجتمعات المغاربية؛ وإلى غياب إرادة سياسية حقيقية تترجم إرادة هذه الشعوب وتوقها نحو التعاون والاندماج؛ على طريق بناء تكتل إقليمي عربي في منطقة استراتيجية هامة.
وبغض النظر عن مختلف الإكراهات؛ يظل بناء اتحاد المغرب العربي؛ بحاجة إلى فتح المجال أمام جميع مكونات المجتمعات المغاربية(مجتمع مدني؛ أحزاب؛ نخب مثقفة..) وذلك لإشراكها في تقوية أساس هذا البناء بمقترحاتها وأفكارها؛ لإخراجه من طابعه الفوقي ومن ركوده الحالي؛ والسير به قدما نحو مصاف التكتلات الإقليمية الواعدة؛ أسوة بالتجربة الرائدة للاتحاد الأوربي في هذا الشأن.
وإلى جانب دور الأحزاب السياسية وفعاليات المجتمع المدني بالدول المغاربية؛ تكتسي المؤسسات البحثية والجامعية أهمية كبرى في هذا السياق؛ لما يمكن أن تسهم به في وضع أساس متين يدعم الاتحاد ويخرجه من هشاشته؛ ذلك أن الاعتماد على معطيات ونتائج البحث العلمي وتلافي الارتجال والعشوائية في اتخاذ القرارات والتدابير على اختلاف أنواعها؛ يمنح هذه الأخيرة مصداقية ونجاعة واستقرارا؛ بما ينعكس بالإيجاب على تطور وتنمية المجتمعات.
الشعوب المغاربية تؤمن بالوحدة وتتطلع إليها
إن تجاوز الإشكالات المعيقة لبناء الاتحاد المغاربي؛ تفرض الوقوف على مختلف العوامل التي تغذي ركوده؛ وفي هذا السياق؛ يظهر المركزية في اتخاذ القرارات التي تطبع ممارسة السلطة داخل الأقطار المغاربية؛ هي نفسها التي حرص مؤسسو الاتحاد على تكريسها ضمن المعاهدة المنشئة له؛ فالمادة السادسة من هذه الأخيرة تؤكد على أن: "لمجلس الرئاسة وحده سلطة اتخاذ القرار، وتصدر قراراته بإجماع أعضائه".
الأمر الذي يفسر غياب أية مبادرة من الأنظمة المغاربية تقضي باستشارة شعوبها عبر أسلوب الاستفتاء بصدد الاتفاقيات المبرمة في إطار الاتحاد، ولذلك فمعظم القرارات والاتفاقيات اتخذت بشكل فوقي لتظل حبرا على ورق.
وأمام تركيز مختلف الصلاحيات التقريرية والحاسمة في يد مجلس الرئاسة؛ لم تحظ باقي الأجهزة الأخرى من قبيل مجلس وزراء الخارجية أو مجلس الشورى.. إلا بصلاحيات محدودة؛ الأمر الذي كان له عظيم الأثر على مستوى بطء اتخاذ القرارات وعرقلة تطور بناء الاتحاد.
كما أن اعتماد قاعدة الإجماع في اتخاذ القرارات بموجب المادة السادسة من معاهدة الاتحاد؛ تمكن أي عضو من تعطيل اتخاذ القرارات إذا ما اعتبرها في غير صالحه.
لقد أضحى إعمال إصلاحات سياسية ديمقراطية مبنية على الحوار والحرية وحقوق الإنسان والانفتاح على المجتمع.. مطلبا ملحا في المنطقة؛ لكونها ستهيّء الأجواء اللازمة لبناء الاتحاد المغاربي الذي يعد مطلبا اجتماعيا في كل أنحاء المنطقة.
وإذا كانت الشعوب المغاربية تؤمن بالوحدة وتتطلع إليها؛ فإنها تبقى بحاجة إلى أنظمة سياسية ديمقراطية تترجم هذه الرغبة واقعيا؛ وبخاصة وأن الاندماج هو ضرورة وخيار استراتيجي بكل المقاييس؛ تفرضه الظرفية الدولية المتميزة بتحدياتها الكبرى.
وتؤكد العديد من التجارب الاندماجية الوازنة؛ أن إحداث تنظيمات إقليمية مبنية على أسس ديمقراطية قوية؛ يسهم من جانبه في تطوير وتقوية المسار الديمقراطي لأعضائها.
فمسيرة هذا الاتحاد الأوربي تؤكد أنه استفاد في تطوره من الأجواء الديمقراطية التي شهدتها مختلف الأقطار الأوربية بعد الحرب العالمية الثانية؛ قبل أن يسهم من جانبه في تعزيز هذا المسلسل الديمقراطي في مناطق عدّة من أوربا الغربية والشرقية؛ وبخاصة وأن الانضمام إلى هذا الاتحاد يظل مشروطا بوجود أنظمة تؤمن بالديمقراطية وتطبقها.
ومما لا شك فيه أن استمرار الأوضاع راكدة وجامدة على حالها؛ سيكلف شعوب المنطقة هدر مزيد من الفرص والطاقات المتاحة لولوج عالم متحول ومتسارع لا يؤمن إلا بالتكتلات.
إن التكتل في عالم اليوم أضحى خيارا ضروريا وحيويا تفرضه التحديات الدولية التي تجعل من التجمعات الإقليمية وسيلة للاحتماء من المخاطر الخارجية المتزايدة في أبعادها العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. ومدخلا لتحقيق التنمية الشاملة.
ويبدو أن هناك مجموعة من العوامل المحفزة على تفعيل الاتحاد والتعجيل بتحقيق الاندماج بين أعضائه؛ فعلاوة على المقومات البشرية والطبيعية والثقافية والاجتماعية والتاريخية.. التي تمثل أرضية صلبة وجديرة بخلق تكتل قوي قادر على فتح مشاريع تنموية رائدة في المنطقة؛ تواجه منطقة المغرب العربي مجموعة من التحديات الداخلية والخارجية في أبعادها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية.. التي تجعل من الاندماج والتكتل قدرا وضرورة.