عبد الرحمن بن زيدان - باحث وناقد مسرحي من المغرب
الفضاء المحايد والفضاء الحيوي
الفضاء دوما يبقى محايدا، وغير منتم إلى معنى، أو دلالات، فراغه هو فضاء بلا إيقاع، وبدون سياق إلا سياق الصمت المطبق على المكان، حياده لا يرى إلا كونه غير مؤهل للكلام، لأن من ينوب عنه في الكلام، هو رتابة صامتة منغلقة على الفراغ، لكن حين يقتحم الكلام، والنور، والجسد، والصور، وإيقاعات الجسد، والموسيقى، فإن الفراغ ينسحب من الفضاء، ويتضاءل أمام حيوية الحياة، ويتقلص ليدع للمكان أبعاده تتشكل بآمتدادات الحركة، وفعل تحريك الحركة بالعلامات، والشعارات، والأغاني، والتمثيل التلقائي، والتشخيص العفوي الذي عرفته بشائر تغيير البنيات المهترئة الفاشلة في رصد الواقع الذي يحرك الوعي الفني ويحركه الوعي التاريخي .
في الفضاء كل علامة إلا وتنهض بنهوض علامات أخرى، وكل أيقونة إلا وتتوالد مع أيقونات أخرى، وكل رغبة في الكلام، وفي الارتجال المنظم إلا وتتولد منه رغبات، وأفعال، وأبعاد يختارها الاختيار اللسني، والعلاماتي ليكوّنوا انسجاما يقول حقيقته باللعب المسرحي، أو يكون تآلفا يرفض حقائق أخرى لا تتلاءم مع حقيقته.
اللعب في الفضاء الدرامي يصير مُهندسا بالعلامات التي هندسته بالأفعال، وبالأحداث، والأحداث تصير هي القناع، وغير القناع، معنى الفضاء هو ما يقوله اللعب المسرحي فتتشخصن فيه الأبعاد لمعرفة ما يحدث فيه من أحداث.باللعب في الفضاء، لا تفتأ العلامات تبني بنية المتخيل في الفراغ ليصير مأهولا بالحياة، وحيّا بها، ومتفاعلا معها يتخذ من النص، ومن الجسد، ومن الصوت وإمكانات لاستمرار الامتلاء في الفراغ الذي تنفيه حياة الفرجة، لأن الامتلاء ، بالعلامات هي في الأصل معاني يتمّ إرسلها إلى المتلقي.
هنا هل يمكن أن نتحدث عن مسرح عربي ضمن هذه الجغرافيات داخل قارته الإفريقية، أو الأسيوية، أو العالمية؟
مع هذا الطرح، ومن هذا السؤال نقول إن العديد من المسرحيات كتبت نتيجة ما عرفه العالم العربي من حراك سياسي وثقافي، وصراع على السلطة، وأن العديد من التجارب المسرحية قد جعلت من الجوهر الإنساني قضية مؤدلجة أضفى عليها رجال المسرح في الوطن العربي الكثير من التصورات، وهم يعيشون تفاعلهم مع الواقع، ويتفاعلون مع العالم ومستجداته، ويكتشفون آليات اشتغال طرق الإخراج مستفيدين من أساليب تجويد الكتابة المسرحية بما يليق بفعل التخييل والواقع الذي يتحول مع التخييل إلى كتابة مسرحية تريد أن تتحدث عن هذا الحراك، وهذا التغيير، علاوة على العيش بآستمرار صدمتهم مع الواقع العنيد، ويستبشرون خيرا بسقوط العديد من الأنظمة الفاسدة، لكتابة ما يناسب سياقاتهم المتغيرة، و يتجاوزونها بعد فهمها، ويختلفون عنها لأن الاختلاف ضروري مع ما يظهر ويتجلى منها في الواقع.
مدارات المسرح في العالم العربي، ووضعيته، وممارسته، وشكل وجوده صارت وضعيات محكومة بما يحكم العالم من صراعات، واختيارات إيديولوجية وانغلاقية تحكمها ذهنية الإقصاء، والتحريم، والتقليص من فعالية الأدب، والفنون، في عالم صار متطورا، و سريع التغيّر، لكنه في جانب آخر، وفي سياقات أخرى صار يبني عالم ما بعد الحداثة لتحدي كل ذهنيات الإقصاء.
العالم الآن يعيش صراعا واضحا بين الانغلاق والانفتاح، بين الاختلاف والائتلاف، بين التعدد والوحدة، بين البعد الواحد والأبعاد المتعددة، بين حرية الإنسان وتغييب الحرية في المواطنة، والحق في التعبير، والعيش الكريم، لكن ما خفي كان أعظم من الظاهر والرائج والمتداول في هذا العالم.لأن الحقيقة التي لا يختلف فيها اثنان هي أن عالما يغيب عنه التواصل، واللقاء، ورواج الفنون الراقية، ويغيب عنه الحفاظ على السلم ، وعلى التواصل خارج الخراب الذي تحدثه الحروب، والغزو المدمر للحضارات، هو عالم يقصي الإنسان، إما بسبب عقيدته، أوبسبب اختلافه، أو لونه، أو بسبب موقفه الرافض لكل من يسلبه حقوقه، أو يصادر حريته في التعبير.
يبقى المسرح فنا خالدا، ويبقى مفتاحا للعلوم، ومفتاحا للآداب، لأنه كان وسيظل العالم المتخيل الذي يُفهم به العالم، ويتم بواسطته الاقتراب من غموض الشك وأسباب الشك واليقين المهزوز. حتى أن كل ضروب القراءات، وكل أنواع التعبير لا يمكن أن تنجلى، وتفصح عن الزمن المسرحي الذي هو بالضرورة حياة الإنسان في هذا المتخيل الآسر إلا بالنظرة المستشرفة للأزمنة العربية التي تكون نسيج حياته بأفق مفترض لكتابة تمهد لآفاق أخرى يجهلها عالم الكتابة الدرامية، ولا يعلم حدودها، فيكون الأفق في إبداع المسرح كتابة مستقبلية تقرأ ما يقع دون التخلي عن نظرتها الإنسانية، إنها رموز تولد رموزا أخرى، وعلامات تعشق العلامات المغامرة التي تتآلف مع الحياة، وتختلف مع خللها، إنها علامات تسعى إلى أن تتمكن من أن تصل إلى جوهر مفقود، وحين تقترب من هذا الجوهر بعمقه الإنساني فإنها ستكتسب قوة خلوده، وخلودها لا يمكن أن يدخل إلا ضمن الأدب الخالد.
,