عبد الرحمن بن زيدان - باحث وناقد مسرحي من المغرب
التعبير عن الذات شرط إنساني: لا يستطيع العالم أن يعيش بدون فنون ، وبدون آداب، وبدون أشكال تعبيرعن الحياة، كما أنه لا يمكنه أن يتحمل الاستمرار في العيش دون قيم، وبدون حقوق أساسية تضمن له تلبية كل حاجياته ، لأن الحياة التي يحيا فيها لحظاته الممتعة، وفيها يعيش تقلباته المتوترة المتغيرة بتغير الأزمنة والأمكنة هي التي يجدها متحققة خارج الزمن الاعتيادي المحكوم بالمغالطات، والملطخ بالتزييف، والمهدد ـ دوما ـ بالحروب، والمعلّب بالمسخ المتجدد بالإيديولوجيات المتحركة بما تملكه دواليب التسلط فيها من قوة ردع لا تبقي ولا تدر.
هذا العالم القريب من تقلباته، والبعيد عن ذاته وحقيقته كثيرا ما يجد لنفسه مع المبدعين مكانا في الآداب، والفنون، وفي أشكال التعبير القريبة من أزمنته، والمتفاعلة مع أسئلته الوجودية التي تنصهر كلها ـ جماليا ـ في المسرح لتجعله عالما يتكلم لغته الخاصة بكل هذه المعطيات، ويتنفس كل يوم بمعنى وجوده فيما يكتبه المبدعون المسرحيون بمسرح كل صورة فيه إلا و تحمل دلالات السؤال حول المفارقات، والتناقضات التي تحكم العلاقات المتوترة بين الإنسان وسياقاته، وكل يوم يتجدد فيه خطابه ببنياته، وصوره، إلا و يتجدد وجوده بالسفر الإبداعي في الذات وفي العالم لفهم أسباب انكسارات تكشف عن خبايا الإحباطات التي تسعى إلى إفراغ الإنسان من إنسانيته، وتسعى إلى الرمي به في متاهات الضياع لتضعف من قدراته الفكرية، والتأملية، والتساؤلية، تسهيلا لاستسلامه للغموض القابض على مُرّ اللحظات، والمتحكم في آليات التخلص من لبسها في الزمن الضائع.
إن كل انبعاث للحياة في حياة النصوص المسرحية التي انكتبت في كل الثقافات في العالم بهذا التجدد والتحدي، إلا وهي إنجازات إبداعية محملة بأمل إرجاع الجواب الوجودي إلى سؤاله الكوني، وإعادة السؤال إلى أجوبته الممكنة، وإرجاع الوضوح إلى وضوحه، والتفكير إلى تفكيره، والإنسان إلى إنسانيته، والحيوية إلى حيويتها الفاعلة في الكتابة ليكون المسرح فعلا إنسانيا يحضر بأبعاده اللامحدودة في فضاء المكتوب، والمعروض ليكون فاعلا بمتخيله في بناء رؤيته التراجيدية للعالم، عالمه المحدود، أو عالمه المطلق، عالمه المشترك مع الناس، أو عالمه الذي يقدم أوصافه، وحالاته خارج المسلمات، والبديهيات، والمثاليات التي تسعى إلى أن تؤبد وجود الخلل في هذا العالم.
بهذا المتخيل، وبهذه الرؤية الرحبة، وباشتغالهما معا كمتخيل في الرؤية، وكرؤية في المتخيل فإنهما يتحركان في كل المجالات والقضايا المأهولة بمعاني الوجود الإنساني المحفز على أدرمة الواقع، فيساعدان على إنطاق الحكي في حوارات المتن بحيوية المتخيل، ويقوّيان من قدرة الإبداع في أزمنة المسرح لكسر المحاكاة الرتيبة الباردة، وتكسير التقليد المميت، والحدّ من كل استنساخ رتيب لكل واقع يعطي الاستمرارية للمغالطات المهيمنة على الواقع المأهول بكل المظاهر الخادعة، والمراوغة ببريق الحرية الزائفة، والتحرر الشكلي.
هذا الحضور اللافت للوعي بقضايا الإنسان في المسرح هو الذي يعيد جماليا بناء الوسائط الممكنة للتواصل بين المسرح وما يريد أن يقوله بمحاكاة مبدعة تتمثل عالمها بما تتمثله في رموز، وإشارات، وانزياحات، وقناعات ترِكّب بها كل المتناقضات ، وتبنى بها لحظة الدهشة بالمكتوب، وتؤثث بها أزمنة الغرابة بالغريب لتكوّن ذاتها بموضوعها ، وليكون وعيها بموضوع اشتغالها يعني فهم وتقديم عالم يكون أكثر قربا من العالم في نتاجه، ويكون أكثر احتكاكا واندماجا ، وانفصالا عن أزمنته، ويكون معبّرا عمّا يحمله من أسئلة وجودية تكشف عن معنى وجوده وهو يقارب معنى ما يحمله من قلق، وهلع، وغضب، وقوة، وضعف، واستسلام ومقاومة، وإدبار، وإقدام، وكرّ وفرّ، تطلعا إلى امتلاك البدائل الممكنة التي بها يبني حياة يؤسس بها مجتمعا جديدا في متخيله الجديد وهو يعبر عن الذات كشرط إنساني لوجوده الإنساني الذي يقف ضد الفراغ.
.