شوقي بدر يوسف
"عندما استيقظ، كان الديناصور لا يزال هناك" " قصة قصيرة جدا للكاتب الجواتيمالى أوغسطو ومنتيروسو"
لا زالت القصة القصيرة جدا ترمى بظلال جدائلها على المشهد القصصي العربي في كل مكان، ولا زال مصطلحها المختزل "ق.ق.ج" يتجلى في سماء المشهد كعلامة جديدة تلاحق وتلاقح هذا المشهد الماكر المراوغ، وترفده بنماذج ونصوص اتفق عليها أخيرا ليس من خلال قواعد الاتفاق المعروفة ولكن من خلال نشر هذه النصوص والطرح والصدى الكبير الذي وجدته عند كتابها وناشريها ومتلقيها في الساحة الأدبية.
ولعل محاولة تفكيك هذه المصطلح، وترتيب قواعده إن وجدت ومفاتيح تواصله إن أمكن هو ما تحاول طرق التنظير المختلفة والحديثة لفن الأقصوصة والقصة القصيرة والقصة القصيرة/القصيرة والقصة القصيرة جدا أن تمنحه لكل منهم من معنى ومبنى، ورؤية وأداة، ولعل هذا المعنى البسيط الذي ذكره القاص السوري أحمد جاسم الحسين في كتابه المتميز "القصة القصيرة جدا" يشير بأن القصة القصيرة جدا أو "ق.ق.ج" ببساطة شديدة هي ": قصة أولا، وقصيرة جدا ثانية".
لعل هذا المعنى البسيط في شكله والعميق في دلالته يعطينا الرؤية الصحيحة حول دلالة المعنى ودلالة المبنى، يعطينا روح الذائقة وهويتها، يعطينا آلية جديدة عن فن القص في صورته المبتسرة الجديدة بأن نصوصها يجب أولا أن تكون قصة تتضمن حكيا واضحا، وحدثا صحيحا، ثانيا هو أن يكون من القصر بحيث يكون صداه سريعا ومتماثلا مع ذات المتلقي وذائقته ورؤيته وثقافته وسرعة بديهته وتلقيه لمثل هذا النوع من الكتابة القصصية الموحية والمعبرّة فى نفس الوقت عن الواقع شكلا ومضمونا.
إن القصة القصيرة جدا بصيغتها الجديدة قد امتلكت بسبب هذا الاختزال الكبير الذي طال بنيتها الفنية ملامح جديدة من الإيجاز والإيحاء ورحابة الخيال وكثافة اللغة وشاعرية النسق وحلمية الصورة وفلسفة الواقع وتركيز الحدث وزئبقية الزمن وبلاغة التأويل وبكل أنواعه وتعدد الدلالات مما جعل هذا الفن يتعاظم ويتنامى وجوده في الساحة السردية المعاصرة بشكل لم نألفه قبل ذلك، وهو بكل ثقله لا يميل إلى التعقيد ولا تعنيه التفاصيل الكثيرة في بنائه الفني لأنه يعتمد على تجربة معمّقة يصوغها الكاتب بأسلوب موجز وشفيف وتقوم فكرته على التقاط موجه حسية لبؤرة درامية ولحظة مقطّرة مأزومة مستمدة من حياة الإنسان والوجود والمجتمع.
وأذكر في منتصف الخمسينات من القرن الماضي أنني قرأت قصة ليوسف إدريس تحت عنوان "رجل" في مجلة الرسالة الجديدة التي كان يصدرها يوسف السباعي آنذاك وعلى ما أذكر كانت القصة ترفد شخصية الأخ الذي رآه السارد وقد ارتدى ملابس الحرس الوطني ليكون جاهزا للدفاع عن الوطن، وقد جاءت هذه القصة تحت مسمى قصة قصيرة جدا، مما يوحي بأن هذه المصطلح كانت له إرهاصات أولية عند جيل الكبار من كتّاب القصة القصيرة، كما أننا لا ننسى النص الرائع للطيب صالح الذي جاء تحت عنوان "مقدمات" ونشر فى منتصف الستينيات في مجلة "حوار" البيروتية.
وكان هو الآخر إرهاصة مهمة لفن القصة القصيرة جدا كتب فى بداية الأمر بالإنجليزية ثم ترجم إلى العربية، فى وقت لم يكن أحد قد عرف بهذا الفن، كما نذكر أيضا نص "انفعالات" للروائية الفرنسية ناتالي ساروت والذي جاء على غلافه مفهوم القصة القصيرة جدا، إن هذه العلامات تعّرفنا مدى الطموحات التي ذهب إليها هذا الفن في بداياته الأولى وبداية ظهوره فى المشهد القصصي.
ولعل ما ترفده الساحة الآن من نصوص قصصية قصيرة جدا، وهذا الزخم الكبير الذي يملأ الصفحات الأدبية والملاحق الثقافية والمجموعات القصصية الحديثة هو الذي فجّر هذه الهرولة المتسارعة تجاه هذا النوع من القص في الآونة الأخيرة. كما أن الطفرة النوعية المستحدثة وما طرأ على هذا الفن من تغييرات وتجريب وتحديث قد ولد حالة من حالات المنجز القصصي الحامل لجينات المغامرة والبحث عن معان مضمرة داخل النص القصصي القصير.
ولأن قضايا هذا الفن الجديد للقص قد بدأت تظهر على الساحة وتتسع حولها الأسئلة ويكثر الجدل حول طبيعتها وشأنها، لذا نجد أحوال وأمور كثيرة تعترض الطريق، خاصة في محور اللغة التي هي الأساس في كل ما يكتب، وربما يكون هناك تقاطع وتداخل وتشابك بين شعرية القصة وقصيدة النثر في بعض الأحيان، فأحيانا يتلاحم المعنى والمبنى في كلا الحالتين جراء محاولة الكاتب أن يضمر المعنى ويهتم بمحور اللغة والإيحاءات والدلالات التي تجيء على نحو مكثف ومقتصد إلى أبعد الحدود مما يجعل التصادم حتمي فى هذه الحالة لا محالة ولأننا في بعض الأحوال نعدم الاختلافات والفوارق في النص السردي بسبب تداخل الأنواع الأدبية والتنقل بين جنس وآخر أثناء الكتابة.
لذا فإن شعرية النص القصصي القصير جدا لا بد أن يخرج من رحم القصة صاحبة المشهد الدرامي والبطل الفاعل وليس من خلال التهويمات واللعب بالألفاظ، لذا فإن التداخل بين القصة القصيرة جدا وقصيدة النثر ربما هو بعد وارد جراء محاولة الكتّاب الاشتغال على محور اللغة والبعد عن منطق الحكي وإحداث المشاهدة داخل النص القصصي القصير جدا، وربما نجد ذلك فى نص "لا تحزني" المهدى إلى الطفلة الفسطينية ماريا حمدي أمين حيث يقول النص ": لا تحزني طفلتي، الصغيرة، الحلوة.. إيه على عينيك.. بحرا بلا شطآن... أتشخصين إلى حلمك، البعيد؟! سيجيء يوم قريب.. تحلقين فى مروج بيتك... تنتظرك أرجوحتك، وعرائسك المكتحلة، العينين... تحكى لها، حكاية شجر الزيتون، والبيت العتيق... الطفل والحجارة... ولا تحزني.." النص شعري بالدرجة الأولى، ولكن به سمات الخطاب الحكائي للطفلة الفلسطينية التى تمثل الطفولة الفلسطينية فى مأساتها الحزينة.
وفي هذه المجموعة القصصية القصيرة جدا التي أخذت عنوانا دالا هو "غواية الصمت" للقاص وائل وجدي وهي المجموعة الأخيرة للكاتب نجد هذا النسق الخاص بحكائية القصة القصيرة جدا، ومفرداتها المقتصدة، والمختزلة، والمكثفة، والمقطّرة إلى أبعد الحدود، وبإيحاءاتها الرمزية الخاصة، وصيغها القصيرة المتواترة والمشكّلة لحالة من حالات الإبداع القصصي المؤصل لفن القص التجريبي الحديث. وبصدور عدد كبير من إبداعات القص القصير جدا هل نستطيع أن نطلق على زمننا هذا زمن السرد القصير جدا؟.
كما أطلق بعضهم سلفا على هذا الزمن بزمن الرواية، أم أن الحياة اليومية سريعة الإيقاع قد فرضت علينا هذه التحولات في مجال النسق الحكائي السريع والمختزل والمبني على جمل مقتصدة، ومضمون يمتح من صلب الواقع وبؤره المختلفة، ولعل التفاصيل السريعة والكثيرة في القصة القصيرة جدا هي التي حتمّت فرض ذائقة جديدة لهذا الفن بآليته الجديدة بدلا من القصة القصيرة التقليدية والقصة القصيرة/القصيرة التي ظهرت كاختزال لصيغة القصة القصيرة في صورتها التي اعتدنا عليها.
وفي محاولة للاقتراب والتواصل مع نصوص هذه المجموعة من خلال هذه الكثافة وهذا الاختزال الشديد المتحلٌق حول هذه النصوص نجد أن هاجس الكتابة وثماره المأمولة ربما تكون هي التي تؤصّل روح النص وذائقته عند المتلقي، ففي هذا المفتتح الذي بدأ به الكاتب مجموعته تحت نفس العنوان "مفتتح" يؤسس الكاتب في هذا النص الاستهلالي بنفس الآلية القصصية التي سوف تسير عليها بعض النصوص في تنضيد مفرداتها ورفد معانيها وتعبيراتها، والحالة المتميزة لواقع النص فيها.
الكاتب يستخدم في هذا المفتتح ضمير الغائب ليضع من خلال ذلك رؤيته الذاتية تجاه ما سيأتي بعد ذلك، والنص على كثافته يتوغل كما يقول في "سراديب الأعماق ليبحث عن دبيب الومضة، ويحلق في المدى.. ليغزل ترانيم الجوى.. فربما تأخذنا شعلة المعنى إلى الشاطئ المأمول والمبتغى".
كان هذا المفتتح هو البداية لنصوص المجموعة أوهو المقدمة الأولية التي جاءت في آلية أراد منها الكاتب إن يهيء المتلقي للوصول معه إلى واقع الصورة الحلمية التي يحلم بها الكاتب لتنتقل مباشرة إلى المتلقي بنفس الدبيب وبنفس الومضة وبنفس الطريقة، وهو ما نجده أيضا في النص التالي لنص المفتتح وهو نص "بوح السندباد" هذا النص ينطبق عليه نفس الرؤية الخاصة بنص المفتتح وإن كان الكاتب قد استخدم له ضمير المتكلم ليجسد حالة خاصة من حالات التطواف والبحث عن البسمة الصادقة لنفس محطة الوصول هو يقول في نهاية النص:" أوحشني بيتي الصغير، ونباتات أرضي، لعلي أستطيع أن أمسك فأسي، أزرع نبتة جديدة". نفس محطة الوصول الذي أراد الكاتب أن يصل إليها نص المفتتح هي نفس المبتغى ونفس ما يرديه الكاتب من نص "بوح السندباد".
ولعل نص "فقد..." الذي جاء بعد ذلك في تشكّله ومضمونه متوافقا مع تنضيد الكاتب لمعظم نصوص المجموعة حيث تكمن الإشارات والأيقونات الدالة، مع بساطة التعبير وحلمية الموقف ودقة التحديد في الحدث والإيجاز الفني في بنية النص ومكانته وسط باقي نصوص المجموعة حيث يبدو هذا النص بجودته وحبكة ترسيمه وتخطيه للسردية التقليدية وانتزاعه لفضاءات الهواجس من أجل تجسيد ملمح ذاتي ومعلم نفسي لرؤية إنسانية فائقة الحدود يتحلّق حولها الجميع في مثل هذه الحالة الوجدانية وعلى هذا النمط الإنساني، فليس يكفي القص والزمن اللازم للقراءة والعوالم الواقعية أو الحلمية الداخلة نطاق النص في تحديد الرؤية.
بل إن النص على تميز تركيبته تصبح وضعيته صعبة في التناول والقراءة مما يجعل الكاتب والمتلقي في حالة تفاعل حول مثل هذا النمط من الكتابة. بدأ الكاتب النص بمقطع وأنهى النص بنفس المقطع. وكما يقول الكاتب الجواتيمالي إنريكي أندرسون إمبيرت "لقصر القصة فاعلية الإحاطة بالحركات القصيرة للحياة".
والنص كما يبدو تنطبق عليه هذه المقولة، يهدي الكاتب النص إلى أبيه "محمد وجدي الصعيدي" ويستهل النص بهذا المقطع ": ... ألمح ضوء الأباجورة الكئيب، يسقط على سريرك.. لا أستطيع أن أخطو عتبات حجرتك.. كيف أدلف من بابها ولا أجدك؟". هذا المشهد الإنساني للأب المريض وتفاعل هواجس الابن السارد تجاه أبيه وعمق العلاقة المتجذرة في هذا الواقع بينهما.
النص يحمل ملامح الشجن والحزن وتأزمات الهم الإنساني جراء مرض الأب. وهذه اللحظات الواهنة في عمر الأب وأيضا في عمر النص والتي تبدأ بهذا المفتتح ثم ما تلبث أن يبدأ المشهد الإنساني للأب في أنفاسه الواهنة الضعيفة وتغلغل روح الابن في روح أبيه فيعرف اهتماماته فيقرأ له عناوين الصحف": استعذب حديثك، أتعلم خبرتك الحياتية، أصيخ سمعي وحواسي لكل خلجة تبوح بها". وتسقط ورقة العمر وينتهي النص كما بدأ، ": ... ألمح ضوء الأباجورة الكئيب، يسقط على سريرك.. لا أستطيع أن أخطو عتبات حجرتك.. كيف أدلف من بابها ولا أجدك؟".
لقد وضح من هذا النص تشظي الحكاية وتفتتها فى هذا المشهد القابل للقصر في بنيته ورؤيته وفكرته، لذا جاء النص على هذه النسق وهذه الوتيرة ليحدد ملامح قصة قصيرة جدا لها أبعاد الحكاية وواقع البطل.
وفي نص "وجع!!" حيث يبدو تنشيط اللغة بين قطبي البعد الاستعاري المأخوذ من واقع مأزوم كما يبدو من مفردات النص، وبين مجاز اللغة الخارجة من نفس المفردات في استهلاله حيث يطلق الكاتب لـ "شباك في المدى وشمس، شحيحة الألق" والبعد الاستعاري الكامن في رؤيته المضمرة وراء سطور الاستهلال ثم الوقوف على الاشتغال المتدفق بعد ذلك في السطور التالية، ولكنه يعود مرة أخرى إلى نفس البعد في نهاية النص. المشهد كما يشير عبارة عن رؤية في التلفاز تتبدى فيها تأزم الواقع الإنساني في مشهد بربرية العدو الصهيوني الذي يستخدم في القتل والبتر أعتى الأسلحة في هجماته البربرية، هذا هو المعنى الذي أريد به واقع المشهد بأكمله، ولكن الكاتب قد وضع هذا المشهد في إطار من إطارات المنزل العادية جدا وكأن المعنى هنا يستنفذ البعد الاجتماعي الذي تسير خطوطه في تتابع اعتيادي وليس بينه وبين هذا المشهد أي صلات متباينة.
وفي نص "قبلة" المكوّن من عدة مفردات متحيزّة ومكثفة تكثيفا شديدا حيث تقول ": ها أنت، تلثم شفتيها.. كم أنت مشوق؛ للمسها.. لكن – الآن – ما تتمناه، أن تنجح قبلة الحياة..". النص على كثافته الشديدة ومفرداته المبتسرة إلا أنه يجمع في طياته رؤية تكمن فيها أبعاد التشٌوق إلى الحب وأمنياته الأولى المتجذرة في بداية النص، ثم تتحول هذه الأمنيات إلى معنى آخر هو أن تنجح "قبلة الحياة"، والأسئلة تدور حول هاتين المفردتين في ذائقة المتلقي حيث المعنى هنا نسبي بين ذائقة وأخرى، فقبلة الحياة ربما تكون قبلة مستديمة وربما هى قبلة العودة من الموت.
نص أخر يمتح من نفس الذائقة اللغوية وهو نص "أوراق ذابلة..."، اللغة الشعرية في هذا النص كما ذكرنا وملامح قصيدة النثر ربما تجنح كل منهما تجاه الأخرى فأحيانا تجنح بعض نصوص القصة القصيرة جدا إلى ظلال قصيدة النثر من خلال تنضيد المفردات والكلمات لتحدد رؤية خاصة ومعنى معين، وهو ما نجده في الإيهام الشعري ونسق الصورة الشعرية المتواجد داخل النص القصصي، بل ونكاد نحس موسيقى الشعر صادرة من طبيعة الكلمات المموسقّة وطريقة تنضيدها على نسق الكتابة النصية الموجزة التي تتوافق مع فضاءات النص ولمحاته.
وفي هذا النص، يبدو نسق الكتابة واضحا فهم الإيحاءات والتحولات والتداعيات وتداخل العوالم الواقعية مع العوالم الحلمية ربما تشكل نص قصير جدا أو قصيدة نثرية تتمتع بمفردات شعرية عالية التردد وهذا يبدو من النسق ": تصحو من غفوتك، الطويلة... ترنو إلى أيامك... أخاديد الزمان، تنخر ملامحك...فتاتك؛ تلوح لك من وراء خصاص النافذة، البعيدة... إلى آخر النص، الذي ينهيه الكاتب بهذه المقطع المعبّر عن الأوراق الذابلة في خريف العمر ": وها أنت تحفر في تاريخك أربعين عاما، وبضع أوراق ذابلة!!".في بعض نصوص القصة القصيرة جدا ينشأ جدل النقائض وتتماهى مآزق الواقع وتحدث مفارقات عديدة في تداخلات مضببّة وغير مرئية مع أن الواقع فيها يبدو واضحا.
وفي نص "بؤرة الفراغ!!" يتماهى الواقع مع حيرة الذات، فى هذا المشهد، فشخصية البطل هنا تريد أن تتواصل مع ذاتها ومع مرضها العضوي أمام ما يريده ويوصي به الطبيب، والذي جاء في الاستهلال الأول للنص": اذهب إلى حجرة الكشف.. اخلع بنطالك.. أريد أن أتأكد من شيء.." ويستبد بالبطل الجدل الداخلي الذاتي في حيرة مما يحدث، وكأنه يبدو في مأزق من جراء المرض، وجراء الحيرة التي استبدت به من أوامر الطبيب الذي يتضح من عبارته أنه سبق أن كشف عليه، ولكنه فى النهاية ": يفك حزام البنطال، ويتركه يهبط على الأرض".
النقائض هنا هي تجليات الحيرة والتدافع المتماثل وجوده على مستوى الواقع وفي المنحوت من السرد، إلا أن الحدث يترك نفسه فى أمثولة لما ينتهي به النص، نفس الدهشة المرسومة في أفق البطل تنتقل إلى الطبيب ": يرنو لك، بعينيه الجاحظتين.. الحجم طبيعي؛ لكنك تحتاج تحاليل". وينتهي النص بنهاية مفتوحة تترك للمتلقي ليفيد من هذه الحيرة وهذه الدهشة التي استبدت بالجميع في جو الحجرة حيث ": خيوط الضوء، المغبشة، بتشكيلاتها الطولية والعرضية، تغزو فراغ الحجرة.. تسقط في دوائر هلامية....".
وفي نص "أحبك..." يبدو هذا النص بحروفه المكونّة لخطاب الاستهلال بدلالته المباشرة، وكلاماته المقتصدة إلى أبعد الحدود إلا أنه يبوح بدلالات الواقع كما هي موضحة في جسم النص. فالاستهلال بحروف الكلمة الساحرة "أ . ح . ب . ك" بمعناها المباشر ثم النظرة الحالمة في ثلاث كلمات بسيطة لكنها محملة بدلالات عالية التردد. ثم رد الفعل الدال على إيحاء خاص بالوجد وحجم هذا الوجد ولكن في أربع كلمات تشير إلى مفاتيح دلالية معبّرة. ": أرنو إلى عينيك؛ يأتيني صداها وشيش خفيض...". لا شك أن النص به تهويمات واقعية، وتهويمات مضببة، الاثنان يحكمهما واقع النص، والحدث الممتد بداخله على الرغم من عدم سعة النص وتقطيره إلى هذا الحد الكبير.
نجد ذلك أيضا في نص "الليلة الأخيرة!!"، حيث يعاني شهريار من سكرات الموت في غبشة الفجر، وعندما تسقط على وجهه دمعة من شهرزاد يرنو إليها ويهمس بحروف متكسرة موحية الدلالة " أ..ح..ك..ي".نفس الاستخدامات للكلمة في تفصيلات الحروف التي تومئ ما بداخل الذات من أحوال هامسة ولكنها تحمل المعنى في نفس الوقت. نص آخر احتفى الكاتب بنسق ترديد الحروف والكلمات المعنية بإبراز المعنى والنهاية المفتوحة هو نص "سيدة الوردة..." حيث يلعب المتخيّل دورا أساسيا في ترديد نبرة الذات بنهاية مفتوحة للنص تركها الكاتب على هذا النسق كنوع من الإيحاءات المتروكة للمتلقي ليشارك في صنع الحدث بطريقته هو بذائقته الخاصة.
هناك نوع من القص الواقعي القصير جدا ولكنه يحمل داخله من المعاني والمضامين والإيحاءات ما يعجز النص التقليدي عن الإتيان به وهو ما جاء في نص "صورة باهتة.." يقول النص ": إطفاء النور.. أزيز الطائرات.. يرعشني. أقفز من سريري الصغير، أجري إلى سرير أبي وأمي. أربع الغطاء. أدفس نفسي بينهما. أحضنهما. تهدأ رعشتي".
النص بمفرداته القليلة يحمل معنى كبيرا وينتهي كما ينهي الكاتب قصصه جميعها بتلك النهاية المفتوحة التي يترك فيها ذائقة المتلقي تغوص وتتأمل وتفكر وتعمل على طرح ما تريد أن تكمل به النص من وجهة نظرها الخاصة. نفس التيمة نجدها في نص "براءة"، ونص "تغريد"، ونص "شرفة".
هذه النصوص الثلاثة نجد فضاءات التجربة الخاصة برؤية السارد من خلال ضمير الغائب الذي تلوح له الحياة بآفاقها الواقعية الخاصة فى نظامها الصارم والبطل الذى يحاول أن يكون له دور فى التجربة بكل بكارتها وتغريدها وهذه النظرة الواهنة الطالة من شرفة المنزل في نص "شرفة" والباحثة عن الونس في غبشة الفجر ومن وراء الذات قبالة الشرفة التي تتنسم فيها هواء الصبح النديّ كما يشير النص.
في هذه النصوص التى حاولنا فيها أن نترسم هذا الفن القصصي الجديد على الساحة بنسقه الخاص وطبيعته المقتصدة، ولعل المصطلح بمحاولات التأسيس والكشف عن الخصائص الفنية التي تحدد مناطق الاختلاف والاتفاق حول ماهية هذا النوع من الكتابة القصصية.
ولا شك أن مجموعة النصوص التى كتبها وائل وجدي بثرائها المعرفي وحالات التماهي في المعنى والمبنى في كل منها وقد حاولنا اختيار بعض نماذج لهذه المقدمة تنسحب الرؤية فيها إلى باقي النصوص وهي كثيرة للغاية ولعل شكل الأقصوصة وطبيعة المفردات وشحنة الرؤية والأفكار الواردة بها قد جاءت متوافقة مع محاولات ضخ جماليات خاصة بهذه النصوص وطرح رؤية قصصية تحمل فى طياتها الأسس المتعارف عليها إبداعيا فى نسق الكتابة القصصية لهذا الفن الوليد الجديد فن القصة القصيرة جدا والتي تمثل هذه المجموعة نموذجا متميزا في ساحته المعاصرة.
.العرب اليوم