شوقي بدر يوسف
في روايته الأولى "السرابيل" 2007، الصادرة عن نادى القصة بالقاهرة يجسد الروائي القاص محمد الناصر في هذه التجربة الروائية غير المسبوقة في عالم الرواية وقائع نص روائي يميل إلى النسق التجريبي الجامع لأبعاد الزمان والمكان والتاريخ والموروث الشعبي في شكل جديد لم تألفه الرواية العربية مستخدما في ذلك رؤية لها إيحاءات الواقع المعاصر، وأبعاد اشكاليته، من خلال إعادة صياغة شريحة من موروثات التراث الشعبي الحكائي مرة أخرى بطريقة فنية مضيفا إليها أبعادا جديدة من إرهاصات الشكل الروائي من شأنها أن تعيد إليها الحياة بحيث ينسجم ذلك مع طبيعة الهموم التي يعانيها الإنسان المعاصر خاصة ذلك النسق التاريخي المعتمد على ما يطرحه المكان من عوالم لها خصوصيتها في التناول حيث يحتفي في هذا النص الروائي بشفاهية مدونات الحكي الممتزجة بمكونات السرد الروائي والمجسدة لعالم مستمد من التاريخ الاجتماعي لأحدى قرى صعيد مصر وهى قرية "التالحة" مركز جرجا محافظة سوهاج وإنسانها العائش في مرحلة منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي.
وأحداث ما يجري في هذه القرية من غرائبية المشهد وعجائبية الحياة حيث يبدو الأنثربولوجي داخل الرواية وكأنه يمنح من التاريخ الاجتماعي لهذه القرية، ناسها، وأرضها، وأحوالها، وتاريخها، ومناخها الذي ينذر بالويل والثبور وعظائم الأمور، في أحوال كثيرة حدثت في هذا المكان وفى هذا الزمان المليء بوقائع تاريخية كانت لها وقع الصدى في هذه المنطقة من العالم خاصة هذا السيل الذي نزل على القرية بسطوته وحضوره الطاغي فأحال الحياة فيها إلى طوفان يشبه طوفان نوح، كذلك هذا السيل الآخر من أصحاب البريهيات الحمراء وقطارهم الذي سكب "جازه" على أرض القرية فأحال طينتها السوداء العفية إلى طينة حمراء لزجة تحولت فيها من الخصوبة إلى العقم في أيام معدودات. لقد غمر السيل الأرض بالماء واللهب بعد تفجر قطار الجاز التابع للجيش الأنجليزي، وينزح الأهالي إلى الصحراء المجاورة الرابضة وراء الجبل، ويتركون دورهم، نهبا لهذه الكارثة التي نزلت عليهم.
ويبدأ من هنا المتخيل السردي في نشاطه الحكائي حيث الصحراء التي يسكنها الجن تنسج حولها الحكايات والأساطير ويسكن الناس بجوار بئر "السحبة" الذي كانت تعلق عليه رؤوس الثوار والمغضوب عليهم من السلطة ويقال أن "التالحة" سميت بهذا الاسم لأنها حملت على كتفها الغربي الجبل ومن ورائه الصحراء أما كتفها الشرقي فقد حمل ماء النيل بما تحمل من خيرات ومقدرات أخرى.
تتناول أحداث الرواية بجانب شفاهية الحكي المتناثرة فى نسيج النص وهذه الأقوال الدالة على كنه ما يعيشه الناس ويتوارثوه جيلا بعد جيل من محكايات ومرويات وأحوال وأمور عددا من العلاقات اليومية العادية والمتشعبة فى شتى نواحي الحياة وما تتضمنه هذه العلاقات من صراعات وأحقاد ومكائد وتأزمات وثورات، ويستخدم الكاتب صيغة الغائب فى حكيه ورويه للوقائع المدونة في نسيج هذا النص.
تتكون الرواية من عشرة متتاليات سردية أطلق على كل منها "كتاب" ولعل هذه التقسيمات تتناسب في اختيارها على ما يرصده الكاتب في فنيات هذا النص ومكوناته السردية، ولغتها الحاملة لمفردات الموروث الشعبي بتجلياته النصية واللغوية والحكائية، منها "كتاب النبق"، و"كتاب الجاز"، و"كتاب الصحراء"، و"كتاب العنود"، و"كتاب الذهب"، و"كتاب الحريم"، و"كتاب الريح"، و"كتاب الخبل"، و"كتاب القطن"، و"كتاب البئر".
تحكي هذه الكتب أو هذه المتتاليات النصية حكاية الإنسان في تاريخه الاجتماعي على أرض قرية "التالحة" التي تتسربل وتتواتر فيها الحكايات النابعة من أرضها وناسها وتاريخها وموروثها الشعبي المحتدم في تطرفه والمستمد مما يتداوله الناس في حكاياتهم وأسمارهم وأمثلتهم، وكلمة "التالحة" مشتقة من التلح الذي يحمل حملا ثقيلا على كتفيه ويحاول ألا ينوء به، وهى نموذج حي للمكان الشعبي الذي يعيشه الناس في بساطتهم وتلقائياتهم وهمومهم الخاصة والعامة، وهو رمز لما قد يحدث في كل قرى مصر من أحوال وأمور يتعايش معها الناس بكل طبقاتهم ودياناتهم وشؤونهم.
وقد قسم الكاتب كل متتالية من متتاليات النص بفصول أطلق عليها بابات والبابة كلمة متداولة في مسرح خيال الظل ابتدعها أبن دانيال ليقسم بها فصول مسرحياته فى منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، ولعل هذه التقسيمات تتوافق مع ما يرفده الكاتب من أحوال تخص البيئة الصعيدية الشعبية التي يعّبر عنها، كذلك استخدم الكاتب في البناء الفني للنص خاصية الأنسنة حين استنطق الحيوان والأشياء في كلمات وأقوال معبرة ومجسدة لأحوال النص تحمل داخلها العظة والعبرة لمن يرى ويقرأ ويعرف في هذا الزمان.
جاء العنوان كعتبة أولى للنص بمثابة المفصح عن معنى السربلة، فهو يأخذ من هذا المعنى ما يحاول أن يضم به هذه البيئة الشعبية الصعيدية بحكاياتها المروية والمدونة فى موروث الناس وحكاياتهم، فهذه السرابيل هي بمثابة الملابس والدروع التي تحمي أيامهم وتاريخهم من الضياع والتشتت. كما تعبّر وتجسد موروث الأجداد وما حدث لهم في أزمنة محددة داخل النص.
ولعل النزعة الأسطورية الطاغية على نسيج النص تعطى للمتلقي ذائقة خاصة في تناول هذا العمل إذ توجد صلة قوية بين عناصر الحكي والقص المختلفة وبين الأسطورة في تجلياتها المختلفة فطقوس الإنسان وشعائره البدائية لا زالت تغلب على طبائعه الفطرية وتحيله دائما إلى نزعة أسطرة الواقع ومحاولة تحويله إلى هذا المنحى خاصة عندما يتطرق الأمر لمناخ الشعبيات في الحكي والقص.
فهذا اللون من الكتابة يقف في أعلى سلم الأدب الخرافي التخيلي حيث يتحرك الأبطال في حيز مكاني محدد، وتحت أطر يحركها ويجسدها الخيال في شتى أشكاله مستخدما في ذلك الأمثلة والمفردات الشعبية التي كانت متداولة ومحركة للمتخيل الشعبي بأهازيجه وأقواله ومفردات أحاديثه، كما يجمعها في نفس الوقت مكان له سمات معينة وحدود لها أبعاد مطروقة ومعروفة، وحدود المكان عند كثير من كتاب الرواية هو الحيز الذي يستطيع الكاتب من خلاله أن يطل على كل الخيالات الممكنة والمتاحة في إحياء الحضور الخاص بالذات والواقع في آن واحد. وفي رواية "السرابيل".
ورغم الحضور المبهر والمكثّف لهذا المكان في نسيج النص ومركزيته المدهشة داخل نسيج النص فإن المكان بتجريده ومصطلحه الجغرافي إن لم يكن يستوطن الشخص والإنسان يصبح هو المهيمن على النص وهو النقطة المحورية التي تربط بين الأحداث والمعلومات الأثنوجرافية التي وضح من مجاهدة الكاتب في جمعها وتضمينها أحداث الرواية في أبعادها الإنسانية، والمكان كنقطة محورية كانت هي الجامع لصنوف الأحداث المختلفة الموزعة على بابات وكتابات النص بالطريقة التي جاءت بها داخل الرواية.
يستهل الكاتب روايته بمشهد المشخلعة بنت العمدة وزوجها "السخل" في عريهما في إحدى ليالي التالحة الناطقة ببرد طوبة، ودفء الفرن المتلفعين به، في بابة "النبق" وهي أول فصول الرواية بهذه العبارة ": يذوب خوار البقرة في صوت عريهما، يسترهما، فلا يصل إلى البيوت المجاورة، لما أنهت خبيزها، كلمتها نار الفرن التي بدأت تخمد، كلامها لون خدودها، أرادته، فغوته، فانكفأ عيها، غير عابئ بحيائها الذي تبعثر على جسده، ما قدرت عليه، أن ارتمت على الفرن الدافئة، وتركت له الحبل على الغارب، يشده ويرخيه، يربطه ويفكه، وهي تدعو في سرها، أن لا يخرس الله البقرة، وأن يرتفع صوتها هذه "العشية"، أعلى من نباح الكلبة، التي سترتهما من قبل عند الساقية، يحذرها دائما من غوايته، تضحك، فيصير عود كبريت، حكته فاشتعل". "ص6". بهذه العبارة استهل الكاتب روايته محددا منذ البداية وقائع ما إلفته الحياة فى القرية من حب واستقرار وألفة من خلال هذين النموذجين من فلاحى القرية "المشخلعة" ابنة العمدة وزوجها"السخل" وبقرتهما التي لها منافع كثيرة أكثر هذه المنافع أنها ستر وغطى على لياليهما وعريهما الخالص.
إن هذا العالم الخيالي الخصب المتأرجح ما بين السرد الروائي الوصفي وبين شفاهية الحكي والقص المتقاطع والمتشابك مع ما ترويه الحيوانات والأشياء عن عبر الزمان وأحواله وموروثاته الشعبية المختلفة، كذلك الاستخدامات الفنية لخاصية الحكي المستمدة من ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة والقصص الشعبية وحكايات الحيوان والخرافات والأساطير هو الذي منح هذا النص خصوصيته ونسقه الخاص في التناول حيث يعتمد القص والحكي فيه على ما تتضمنه وتحتويه كل بابه أو كل فصل من وقائع مستمدة من أحوال التاريخ الاجتماعي والإنساني الذي مر به المكان منذ عقود خلت ولا زال عبق التاريخ يترك بصماته على أديم هذه المكان، بل ولا زالت ظلال الإنسان وملامحه تملؤه بصخبها وضجيجها عبر هذا الأنثربولوجي المتراكم في وجدان ناس هذا المكان.
ويهدف الأنثربولوجي المشكل لمكونات السرد بوقائع وأحداث ومشاهد هذا المكان وهذا الزمان تظهر في كل فصل أو كل بابة على أنها مظهر من مظاهر الحياة التي يحياها الناس وسط جو مشحون بالتشاؤم في بعض الأحيان ورائحة الموت ومظاهر البؤس والفاقة وكوارث الطبيعة وسطوة القهر واستلاب الواقع نتيجة للحضور الكبير لمظاهر الحرب المتمثل في مقاومة تجريدة المماليك إلى السودان ونزولهم بأرض التالحة ومقتل معسكرهم ودفنهم في هذه الأرض وإقامة مشهد سمي بعد ذلك بأبي طربوش يزوره الناس ويتبركون بطربوشه والزر النازل من خلفيته، كذلك مقاومة جنود الاستعمار الأنجليزي الجاثم بعد ذلك على صدر الناس في كل مكان.
كل هذه الأمور، يجسد منها الكاتب وقائع نصه الروائي بمشهد رئيسي تصدرت به عبارة على غلاف الرواية وهى عبارة دالة للتعبير عن المشهد السردي ومروياته الشفاهية كمثال حي لما دار على أرض التالحة ومع ناسها في هذا الزمان ": منذ جاء الأنجليز "بقطر الجاز"، وفى كل نهار وليل، يكبر جبلي ويصغر في عيون الخلق، بقدر ذراع "السخل" إذا شد لجام البقرة، تتسع صحرائي وتضيق، بقدر فرجحة "المشخلعة" أمام "مجور" جدتها، الذي عجنت فيه ما عرفته مما حكى الخلق قبلها، من قبل طوفان نوح، وحتى آخر سيل هجم، لم يفلح في خلع نخلى وشجرى، و"سبلة" تنصت للماء،علها تسمع "مسرى" قادما فوق مركبه، منتظرة في كل حول، يوم زحامهم عند "أبو طربوش" "الغلاف".
بهذه العبارة التي تصدرت غلاف الرواية والتي جاءت على لسان التالحة في مونولوج داخلى معبر عن كنه الحالة التي أصبحت فيها القرية وأحوالها الخاصة والعامة، ربما يختزل الكاتب وقائع ما يحدث في قرية التالحة من أمور وأحوال تتبدى مظاهرها فى هذه الأحداث والمشاهد المستمدة من تشابك ما يحدث على أرض الواقع في هذا المكان المليء بتجليات المشهد السردي في مروياته الشعبية المتفاعلة مع الواقع المعاصر، ومن الشخوص الرئيسة المعتمد عليها النص مثل شخصيات "السخل"، "المشخلعة" بنت العمدة، "مسرى" الفتة القبطي وزوجته"سبلة"، "الساكت" ساكن أعلى الجبل، الأنجليزي ريس المكن، الجورنالجية "الحرمة الحمراء"، والشخوص الحاضرة الغائبة، "الجدة سمهج"، "العنود"، وغيرهم من الشخصيات المتشابكة في المشهد العام للنص، وهي شخصيات مؤهلة لأن تستخدم في منظومة هذا النص لاستيعاب الموروث الاجتماعي والإنساني الذي أراد الكاتب أن يجسده ويعبر عنه بإيحاءات الرمز وكذلك المدلول الشعبي الموظف في نسيج الرواية خاصة ما استنطقه الكاتب على لسان الحيوان والطير والجماد في كل بابة من بابات المتتالية النصية للرواية.
ويبدو بعض الرموز الدالة على وقع الحياة ودبيبها وما تحتويه من تأزمات تطول الإنسان والحيوان والأرض، وتعبّر عن وقائع المحور الذي يبدو رئيسيا في نسيج الرواية وهو محور السيل، وقطر الجاز الذي انسكب على أرض القرية، كما اختزلت أيضا العبارة التي جاءت في بابة "المولد" على لسان "أرض السخل" بعض وقائع النص فيما ترويه ":بعد أن جردنى السيل والجاز و"ريس المكن" من النخيل والشجر، صرت عارية، كأننى "الحرمة الحمراء" على "الموردة" وهى تأخذ غطسها الصباحي، خجلت، فحدثتني نفسي أن أضع يدي في أنفي، كما تفعل قبل القفز في الماء، وآخذ غطسا عميقا في الماء الذي تحتي، عندما غطست، قال لي الحفارون، غطسك يستمر شهورا، حتى نخلص ترابك من الجاز، لكن صراخ "السخل" أيقظ في ما كنت أنوى نسيانه، اشتقت إلى شق "طوريته" لي، والى سيل الماء في شقي، والى البذرة تمتلئ بالماء فتنتفخ، وتكبر، تفلق التراب فوقها وتنمو، حتى اذا صارت سنبلة،جاءت بقرة "السخل" فأكلتها، أو صارت "غلة" في شونته""ص143".
من هذه التجليات السردية يتأثر الجو والمناخ العام للرواية من خلال المشاهد التي تتضمنها كل بابة على حدة لتكّون في النهاية المحور الرئيسي لنسيج الرواية خلال المتتاليات النصية الحاملة داخلها لحكايات التالحة وتاريخها الاجتماعي والشعبي، وما تحمله هذه الحكايات من أبعاد إنسانية وتاريخية واجتماعية، ففي بابة "قطر الجاز" على سبيل المثال يجسد الكاتب مرحلة من مراحل الثورة على الأنجليز الذين ادخلوا الجاز إلى الجبل لتحمله فناطيس الجيش الأنجليزي وتوزعه على معسكراتها فى المديرية وبالتالي يستفيد الناس أيضا من هذا الجاز على غير المألوف في حياتهم، فكثرت في التالحة اللمض، والوابور أبو كباس، وغيرها مما يستخدم فيه الجاز، ويستخدم الكاتب في هذه البابة إطار الحكاية متأثرا في ذلك بحكايات ألف ليلة وليلة هو يتعامل مع نسق الحكاية بصيغتها المؤثرة والمشوقة في ذائقة المتلقي ":عندما رأى "السخل" "قطر الجاز"، سأل امرأته هلي تكتم السر؟، قالت ويقطع الله لسانها، إذا حكت لأحد غير "البقرة"، فأخبرها أنه عندما قام الناس مع "سعد" كان قد عدى العشرين، ولم تضحك عليه بعد "غوازى" الأفراح والموالد فى المديرية، نظرت إليه، وسخرت من رجلها المسكين، كأن "الغوازى" جاءت البلد، ودقت على كل باب، تسأل عنه، لما خرجت إليهم "العنود"، قلن لها إن "الغوازى" حلمت ببلد تحت جبل، فيها بيوت من طين وبيوت من حجر، يسكنها "ولى" له "طربوش"، أعلى من "طربوش السلطان" رأت "الغوازى" في الحلم أنها ترقص له، فأعطتهم "العنود" "السخل"، وقالت يجعل الله حلمكم حقيقة، رقصت "الغوازى" قداّم البيت، نزل من الجبل طائر، جناحه أكبر من دوار أبيها "العمدة"، وخطفه مع "الغوازى"، وغطس في "الجبل"، شهر بالتمام والكمال، والخلق يسمعون كل ليلة طبلا وزمرا قادما من الجبل، ثم رأوا "السخل" نازلا من الجبل يبكى، يقول إن "الغوازى" ضحكت عليه، كرامة لسيدهم الجنى" "ص113".
إن هذا المزج بين شفاهية الحكاية والترميز الناتج عن وضع اسماء ووقائع مستمدة من أحداث تاريخية هو محاولة لإعادة تركيب العالم الإنساني وعرضه وتفسيره من وجهة النظر الخاصة، فالواقع الانثربولوجي المعتمد على الحكي والقص، ربما هو يؤول تاريخ الإنسان ليجعل ثورته على الظلم والقهر والاستعباد هو العمل الخالص لتحقيق الذات على المستوى الخاص والعام، فحين جمع أهل التالحة الأجنات والطوارئ وجاء طلبة المعهد الدينى وخبؤوا هذه الأدوات في بطن الجبل تمهيدا لخلع قضبان السكك الحديد حتى لا يستفيد منها الأنجليز طلعت الشمس ولم يكن في أسيوط سكك حديد تصلح لسير القطارات عليها.
في هذه المحاولات من التمرد والثورة على مظاهر القهر يجسد الكاتب حكاوى العنود والمشخلعة والساكت، وكل من حاول أن يقيم دعائم هذه الثورات أمام قوى الأنجليز المتحكمة فى مقدرات الناس فى كل مكان، وما فعلوه قبل ذلك مع تجريدة المماليك يفعلونه الآن مع قوى القهر وسطوة الاستعمار الانجليزي، كذلك يحكي النص حكاية موت "مسرى" في مركبه السائر في النيل ما بين أسيوط والمنيا ونبوءة المرأة العمياء التي صاحبها وحمل لها حمولتها إلى الدير، لقد مات الاثنان مسرى والمرأة العمياء وشكلت هنا إشكالية الموت واحدة من الموروثات التي عبر عنها النص في بابة "الدير" وانتظمت كثيرا في أنسجة الرواية المختلفة فكثير من البابات تعتمد موقف الموت وإشكاليته الرئيسة كمحور أساسي لها خاصة استدعاء الأجداد وأرواحهم وممارساتهم أثناء حياتهم في منظومة النص تجعل من هذا الاستدعاء نمطا أساسيا يعطى ذائقة التلقي بعدا مؤثرا ومنطقيا في سرد الأحداث.
ثمة بابة أخرى توضح شفاهية الحكي ومكونات السرد الروائي، ففي بابة "بيت الملائكة" حكت المشخلعة لسبلة عن جدتها سمهج وقصة العبيط الذي نزل البلد ليحذرهم من الرجال الملائكة التي تنزل البلد وتستحل نسائها، وشنق هذا العبيط بعد أن ثبت هرطقته وسوء نواياه، على باب بيت الملائكة، كما شنق الترك طومان باي على باب زويلة وشتان بين ما فعله طومان باي وما فعله هذا العبيط بأهل البلد.
كما نجد أيضا في بابة "برطعة" من "كتاب الريح" حيث لعب الجاز بدماغ بقرة "السخل" فأخذت تبرطع وتجري وكأن الجنون قد مسها، و": ولولا أن البقرة ليس لها فى الكيف، لقالوا أخذت من حشيش الدايخ "أوقية": جرت البقرة لبير "السحبة" تدلدل رقبتها فى اتجاه الماء، رأى "السخل" جده "حمود" مشعلقا من رقبته، في صارى منكوت فوق "البئر"، و"الساكت" مخوزق فوق "الصارى"، ينظر للمشعلق وللبقرة""ص156".
الرواية على هذا النحو تسير في باباتها ومتوالياتها النصية، كل مشهد يحمل داخله مظهرا من مظاهر تجليات الحكي الشعبي بموروثه الخاص ممتزجا بمكونات السرد الروائي، ليحدد في نهاية المطاف رؤية الكاتب نحو تشكيل وتكوين رؤية تاريخية أنثربولوجية محددة، من هنا نجد أن بعض الروائيين المهتمين بأنثربولوجيا الشعوب في مثل هذه الحالات يذهبون إلى أبعد من ذلك فيضيفون إلى رواياتهم صفحات مطولة من التعليقات والتوضيحات والهوامش والتذييلات كما هو الشأن مع الكاتب الهندي أمتياب جوش في روايته "بلاد عتيفة" حيث أضطر أثناء كتاباته لهذا العمل إلى الرجوع إلى المحفوظات والمخطوطات اليهودية التي تعرف باسم "الجنيزة" والمحفوظ معظمها في جامعة كمبردج.
ولم ينس هذا الكاتب بأنه في الأصل باحث أنثروبولوجي، لذا فإن نظرته للرواية كانت نظرة ليس على أساس أنها عمل من أعمال الخيال الصرف، ولكن على إنها تعبير عن علاقة حقيقية تمثل الواقع وتحدد مفهوم العلاقات الإنسانية الناشئة في نسيج عمله الروائي. وهو ما فعله محمد الناصر في روايته "السرابيل" حين جمع هذا الحشد الكبير المتشابك من الأحداث التاريخية والحكايات الشعبية عن قرية التالحة في هذا العمل الروائي المرهق في قراءته الجامع بين المتخيل السردي ومدونات الحكي الشفاهية في تحقيق أبعاد إنسانية وذائقة غير عادية للمتلقي في عمل جديد من أعمال الرواية العربية المعاصرة.