عبدالحميد البجوقي
تميزت العلاقات المغربية الاسبانية المُعاصرة بالمد والجزر، وغالبا ما كان يسودها التوتر بوصول اليمين الاسباني للحكومة وببعض الانفتاح بوصول الاشتراكيين للحكم، وبالتالي يبقى التأثير في نوعية العلاقة بين البلدين مُتعلقا بالتغيرات الحكومية في المملكة الاسبانية في حين لاتؤثر التغييرات الحكومية وتعاقب الحكومات المغربية على العلاقات بين المملكتين، والسبب يكمن طبعا في طبيعة الحكم في المغرب وفي استمرار الملكية كمركز قرار يُمسك بخيوط السياسة الخارجية لا يتغير بتغيير الحكومات مهما كان لونها أو قوة الشخصية التي تترأسها ولا حتى بوصول ملك جديد للحكم ما دامت المؤسسة الملكية مُستمرة والماسكة بملف السياسة الخارجية وغيره .
هذه المعادلة يعرفها الساسة الاسبان الذين تعاقبوا على الحكم منذ الديموقراطية وحتى منذ عهد الجنرال فرانكو سابقا والفارق أن الحكومات الاشتراكية الاسبانية كانت أكثر براغماتية في فهمها لهذه الخصوصية المغربية كما كان الزعيم الاشتراكي السابق فيليبي غونصاليص سباقا في استثمار علاقات قوية مع الملكية في المغرب ومع الملك الحسن الثاني بالخصوص. بالمقابل يعرف القصر الملكي المغربي أن تأثير الملك خوان كارلوس في العلاقات بين المملكتين لا يتعدى دور تسهيل التواصل وتخفيف أجواء التوتر في اللحظات الحرجة دون التأثير في القرارات السيادية للحكومة.
رئيس الحكومة السابق اليميني خوصي ماريا أثنار أحدث الاستثناء لما حاول استغلال لحظة انتقال المُلك في المغرب لتغيير سياسته الخارجية مع المملكة المغربية مُستغلا بعض الهفوات المغربية في التعاطي مع بعض الملفات، وكانت النتيجة أن التوتر انتقل إلى درجات قصوى أثرت سلبا على المصالح المُشتركة ووضعت اسبانيا في موقف حرج مع حلفائها في الاقليم ومع شركائها في الوحدة الاوروبية ليفهم أثنار أن العلاقة مع الملكية في المغرب هي الأصل وأن الحوار مع الحكومات تسخينات مؤقتة تتطلبها الديبلوماسية.
من نتائج توتر العلاقات وسوء تقديرات الحكومة اليمينية آنذاك نزاع جزيرة ليلى أو البقدنوس سنة 2002 (جزيرة متنازع على سيادتها بين المغرب وإسبانيا، وتقع في مضيق جبل طارق قبالة الشواطئ المغربية) الذي وضع البلدين على حافة المواجهة المباشرة وتقريبا قطع العلاقات المباشرة ، ولا زالت أروقة وزارة الخارجية الاسبانية تتناقل قصص لحظات التوتر في نزاع "حجرة" ليلى وكيف اكتشفت وزيرة الخارجية الاسبانية المعروفة بقربها وحبها للمغرب أن قنوات الحوار في المغرب مع مركز القرار تختلف عن الإسبانية، وأن ما أقدمت عليه حكومتها هي مغامرة بكل المقاييس وأذكر بشكل خاص التي حصلت ليلة الهجوم على الحجرة/الجزيرة لما هاتفت الوزيرة الاسبانية وزير الخارجية المغربي آنذاك السيد محمد بنعيسى في ساعة متأخرة من الليل تُخبره بأن حكومتها مضططرة لاتخاد قرار خطير وتطلب منه أن يتشاور مع حكومته والاسراع بتوقيع ولو بيان حسن النوايا بين البلدين في أسرع وقت وتلافي الأسوأ، ومفاجأة الوزيرة التي أسرت بها لبعض مساعديها أن أجابها الوزير قائلا " آسف سيدتي وأعرف أنك صادقة، لكن في هذه الساعة المتأخرة من الليل لايمكنني أن أزعج جلالته وسأخبرك في الصباح بأي جديد ممكن". جواب وزير الخارجية المغربي لم يفاجئ الطاقم الديبلوماسي الاسباني العارف بخبايا السياسة المغربية بقدر ما فاجأ الوزيرة التي أسرت ـ حسب نفس المصادرـ لمعاونيها أنها الآن فهمت فداحة الخطأ الاسباني في التقدير. وطبعا لا يتعلق الأمر بتبريرالوزير أنه مُلزم بالتشاور مع الملك وهذا أمر عادي وطبيعي بقدر ما فاجأها أن الوزير المغربي لايستطيع التواصل بسهولة مع مركز القرار في ساعة متأخرة من الليل حول موضوع بهذا الحجم من الخطورة ، وأن الطبيعي هو ما كانت تمارسه الحكومات السابقة بما فيها اليمينية بالحفاظ على قنوات مباشرة مع القصر الملكي المغربي دون التفريط في بروتوكول العلاقة مع الحكومة المغربية.
الآن وبعد مرور أكثر من10 سنوات (يونيو 2002)على التوتر الذي خلفه نزاع جزيرة ليلى يعود اليمين الشعبي إلى الحكومة في إسبانيا بقيادة ماريانو راخوي، ويعود في ظل أزمة اقتصادية خانقة ترافقها أزمة سياسية حادة تُهدد وحدة المملكة الاسبانية بعد إعلان الحكومة الكطلانية عن رغبتها في تنظيم استفتاء حول استقلالها عن اسبانيا.ويعود في ظل تغيرات وتحولات تعرفها المنطقة من ربيع عربي واندلاع توترات اقليمية في المنطقة تُهدد الأمن الاقليمي،كما تأتي زيارة القمة بين البلدين لترسم في تقديري لمسات جديدة للعلاقات المغربية الاسبانية ولتضع حجر اساس تعاون اقتصادي وسياسي وأمني لا تستقيم بدونه مصالح الطرفين.
كل المؤشرات تُؤكد أن اليمين الاسباني فهم ولو متأخرا شروط ومفاتيح العلاقة مع المملكة المغربية وسيحاول استثمار دوره الطبيعي كيمين في احتضان المصالح المغربية ـ كما هو شأن اليمين الفرنسي ـ وفي حماية المصالح الاسبانية بتعديل تدريجي لبعض مواقفه حول قضايا حساسة بالنسبة للمغرب مقابل أن يتلافى المغرب الخوض في أخرى مشابهة بالنسبة لاسبانيا. كما أن التعاون الأخير بين البلدين في طرد 68 مهاجر إفريقي في شتنبر 2012 من جزيرة "الأرض" أو بادس( طولها 70 مترا وعرضها 50 مترا وتبعد ب300 متر عن ساحل مدينة الحسيمة المغربية) و استمرار التعاون في محاربة الهجرة السرية والمناورات العسكرية المشتركة خير دليل على تفاهم جديد ينتظر منه الطرف الاسباني أن يتحول إلى المزيد من الإنفتاح على الاستثمارات الاسبانية في المغرب.
زيارة راخوي للمغرب يوم الأربعاء 3 أكتوبر الجاري برفقة وفد كبير من وزراء حكومته والحفاوة التي استُقبل بها من طرف الملك محمد السادس تؤكد استعداد المغرب المتأثر بتداعيات الربيع العربي لترميم علاقته مع الجارة الاسبانية وضمان دعمها ل "النمودج المغربي". لكن مثل هذا التفاؤل في التقدير لا يُلغي حقائق وخصوصيات جديدة تعرفها المنطقة وتتطلب من الطرفين رؤية مستقبلية وسياسة خارجية استباقية لمواجهة فرضية أن اسبانيا مُقبلة على مرحلة جديدة سـتُغير حتما ملامحها الحالية وأن المغرب مُقبل على مرحلة جديدة من تاريخه المعاصر لايمكنها التعايش مع خصوصيات عتيقة عصفت بأنظمة عريقة في المنطقة..