لندن-العرب أونلاين
مفهوم الدكتاتورية ليس أن تسجن الأجساد وتعذبها، بل أنك تحاول سجن الأفكار، واغتيال العقول الخلاقة، وهذا ما ينطبق على ليبيا زمن حكم العقيد معمر القذافي، حين أصرّ أن يكون الأوحد في كل شيء، فغيّب المثقفين عن الساحة، وكبّل كل الأيادي التي حاولت أن تصنع من ليبيا أملا جديدا، بعد سنوات الجهل والتخلف.
والحقيقة أن العديد من الأسماء الليبية الفاعلة في المشهد الثقافي، قبل ثورة الفاتح من سبتمبر- أيلول 1969،كانت لامعة ومعروفة، ولها إنجازات، قبل أن يكتشف الجميع حقيقة "الثورة" الخدّاعة، ويحترقون بنيران الجور.
و لم يوقف القذافي تحضرليبيا وتمدنها وتقدمها فقط، بل شرد عقولها ومثقفيها ورجال السياسة والتعليم اللامعين فيها أيضا. ولربما تكون جناية العقيد على الثقافة الليبية بحجم جنايته على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما يرى الناقد الأدبي فخري صالح في استعراضه للانحدار التعليمي والثقافي والمعرفي، الذي تعاني منه ليبيا منذ استيلاء القذافي على السلطة.
وهكذا بدأت هجرة العقول إلى خارج ليبيا في فترة السبعينات والثمانينات، بعد أن استطاع القذافي إعادة تشكيل المناهج التعليمية، واستمال ضعاف النفوس من المثقفين والأكاديميين ليهللوا بمديح أفكاره ورؤيته العبقرية، التي أودعها كتابه العجيب "الكتاب الأخضر".
فالمطل على تاريخ الثقافة والإبداع الليبيين في الماضي والحاضر سيذهل للانحدار، الذي أصابهما في عهد القذافي. ففي عام 1957 كان خليفة محمد التليسي "1930- 2010" قد أصدر كتابه المرجعي عن "الشابي وجبران"، وفي عام 1966 كان أستاذ الفلسفة والمترجم د. علي فهمي خشيم يضع كتابه عن فلسفة المعتزلة، ويترجم في سنوات تالية الكتاب السردي العظيم "الجحش الذهبي" لأبوليوس، وكذلك كتاب و. سذرن الشهير "رؤى غربية حول الإسلام في العصر الوسيط"، إضافة إلى عدد آخر من المؤلفات والترجمات المميزة.
على الضفة الأخرى، أي في المنافي العديدة المتباعدة، التي لجأ إليها المثقفون الليبيون للحفاظ على رؤوسهم والنجاة بإنسانيتهم، تفتحت مواهب كبيرة فرضت حضورها على المشهد الثقافي العربي، بل إن بعضها أصبح جزءا من ميراث الثقافة الإنسانية المعاصر عبر الكتابة بلغات أخرى غير العربية، وخصوصا باللغة الإنجليزية، والأمثلة علي ذلك كثيرة كالروائي هشام مطر والشاعر والمترجم البارز خالد مطاوع، الذي نذر نفسه لترجمة الأدب العربي، الشعر منه بالخصوص، إلى اللغة الإنجليزية.
في تلك المنافي أنجز ابراهيم الكوني، وهو يعيش في معتزله السويسري، أهم أعماله الروائية، سواء تلك التي تدور حول عالم الصحراء والندرة والعلاقة الوجودية البريئة التي تقوم بين الإنسان والحيوان والطبيعة، أو تلك التي تتحدث عن معضلة الوجود وعذاب الروح في عالم المادة.
اللافت أن ابراهيم الكوني، الكاتب المنشغل بتقديم تأويل لمعنى الوجود والعدم، والشغوف بأعمال الروائي الروسي العظيم فيودور دوستويفسكي، يكتب في السنوات الأخيرة عملا مختلفا مهووسا بتفسير معنى السلطة، كأنه في رواية "الورم" "2007" يستلهم شخصية القذافي حين يسعى إلى التعرف على ماهية السلطة وتشريح لاوعيها وبنيتها اللاشعورية.
في منفى آخر يكتب الروائي الشاب هشام مطر عملا سرديا مدهشا باللغة الإنجليزية عن رعب محاكمات العقيد لرجال الدولة الذين يتهمهم بالخيانة والرجعية ، فيختفون دون أن يظهر لهم أثر. في روايته "في بلد الرجال" ، الصادرة عن دار بنغوين البريطانية 2006 والتي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر في العام نفسه وترجمت حتى الآن إلى 22 لغة.
هذا بالإضافة إلى رواية "تشريح اختفاء" Anatomy of A Disappearance التي تستوحي سيرة الكاتب الليبي الذاتية أيضا. إنها تستلهم الأجواء نفسها، وتسرد، من خلال وعي الصبي ابن الاثني عشر عاما، رعب اختفاء الأب رجل السياسة الذي يختطف ولا يظهر له أثر بعد ذلك.
إذن، لم يكن مآل المفكرين في ليبيا زمن القذافي أفضل حال من ممارسات "غرازياني"، سفاح إيطاليا، حيث عمد "القائد" الجديد و"الفاتح" الهمام إلى إقصاء كل من تسوّل له نفسه محاولة الاجتهاد، والابتكار، فصار الفكر بدعة، والمفكر منبوذ، والثقافة تهمة، قد تطرق من خلالها أبواب السجون.