عثمان الزياني
هل منطق الأشياء وحقيقة قيمها يتطلب منا أن نمتطي شهوة إسهال الكلمات الدلالية والداعية لمحاربة الفساد بينما نخضع فعل المواجهة والمجابهة لاكراهات فقه واقع الفساد ،وننتصر لفكرة اللاعقاب ،ونهج الصفح في زمن ادعاء تنزيل دستور المحاسبة والمسؤولية،فسهب الكلمات الفضفاضة والرنانة يحمل مطية التحايل والتسويف والتدليل على اللاقدرة وعدم الاستطاعة في خوض حرب نتائج الخسارة فيها محسومة لكن بمنطق فقدان الكراسي والمناصب،فالخوف والرهبة من هدر الحظوة والأبهة الحكومية والتقرب من السلطة والوجاهة الاجتماعية هي بيت القصيد في تصارعية محاربة الفساد والمفسدين،ومع التواتر أيضا يمكن أن تنحبس الألسن في القول وتمضي مع ضياع الفعل والإرادة ولا ندري إلى أي منقلب ينقلبون.مع ترسخ اعتقاد ممارسة شعائر "ذلكم اضعف الإيمان" مع استبعاد "قاعدة تغيير المنكر "وكل حسب آجره.
ولعل الخيط الرابط والجامع بين بدايات البرنامج الانتخابي الثاوي لمحمولات كثافية دالة على محاربة الفساد،وتبوء الموقع الحكومي هو تجفيف حتى حماسة الكلمات وانكفاء الإرادة حتى في الفضح واستعارة كلمات الصفح "عفا الله عما سلف"،لتترك الأمور عالقة إلى أجل غير مسمى وتتحول "حكومة الآن "إلى جزء من لعبة الفساد نفسه ،شاءت آم أبت،وترسم ترانيم الاستمرارية وتزرع مكامن الانتكاسة والإحباط وتقتل الآمال من جديد ،خاصة وان تحريك المحاسبة والمعاقبة تم إسباغه ببرنامج يحمل في طياته معاني أخلاقية ودينية،فكيف يمكن استرجاع الثقة إلى حقل السياسة عندما تحركها مفاتيح ومفاصيل الخطاب الإسلامي المغلف بادعاء الطهرانية ،فيقود الأمر إلى حافة الإفلاس .
إن الحكومة تنهج مبدأ "عين ترى وعين لا ترى"،وتتصرف في كثير من الأحيان" كزوج تخونه زوجته وهو يعرف ذلك والجميع يعرف ذلك ،لكنه يستمر في التظاهر كأنه شيئا لم يقع مبتهلا إلى الله أن يجنبه مواجهة هذا الوضع لأنه سيكون مجبرا على اتخاذ موقف ما" ،ويزداد المشهد سوريالية في لعب دور الضحية والاستسلام لصالح فروضات واملاءات العفاريت والتماسيح ،فهذه الأخيرة عينية يمكن رؤيتها ومواجهتها شريطة التسلح بالإرادة والقاعدة الإيمانية في قهر الصعاب والمكائد لان العدو هنا رغم قوته فهو معلوم بينما تحمل دلالة العفاريت مكامن استحالة المحاربة والمواجهة نظرا للطبيعة المجهولة للعفاريت والفجائية في الظهور والاختفاء ،بالتالي تثبط الهمم أكثر ،انه بكل بساطة انتصار لمنطق رفع الراية البيضاء في وجه الفساد للخروج بأقل الخسائر والاستمرار في جني الأرباح الضيقة الشخصية.
فهل من الاستقامة الجمع بين الصفح واللاعقاب من جهة والحديث عن التنزيل السليم للمقتضى الدستوري بمكمن المحاسبة والمسؤولية وندرك جيدا قمة التناقض والتناحر والأمران لايستقيمان ،مع تشكل ذلكم الجدار السميك الذي يحوي موانع "إبستيمية وغائية"،فلا يستوي الصفح مع العقاب في ظل استئساد "بعبع الفساد" وتمكنه من كل مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ،فالفساد استطاع أن يحدث لنفسه نسقا دولتيا ومؤسساتيا وثقافة خاصة تدعم انسيابيته وانتشاريته على مختلف الواجهات والجبهات مع كثرة الطلب عليه وتزايد مريديه،خصوصا وان مسامعنا تلتقط وبشكل يومي حجم هدر المال العام ومدى توغله وتغوله.
فهل منطق المحاسبة يقتضي ركوب قاعدة التخلي وغض الطرف تحت مسمى التسامح مع جلادي المال العام ،فالجرم المشهود عظيم ينخر جسد المؤسسات والمجتمع ويعبث بالقيم النبيلة إلى حد استبخاس قيم الإنسانية ،فلا يصلح أن تترك هكذا الأمور على عواهنها بلا حسيب ولا رقيب ونزيد في صبيب ثقافة الانفلات من العقاب التي لا تساهم إلا في تركيز التمادي في تيمات إهدار المال العام .
وهل جوهر مبدأ مساواة الجميع أمام القانون ينسجم مع قاعدة الانفلات من العقاب التي تؤسس لعناصر التمييز بين المواطنين مع خرق فاضح للمساواة،وضرب مبرح في خاصرة سلطة القانون وسموه على الجميع،فلا احد يعلوا على القانون إن كنا نملك حبة خردل إيمانا.
إن هذه السيناريوهات تعيدنا إلى نقطة الصفر وتعيد إحداثيات الحكومات السابقة في التعامل مع الفساد والمفسدين ،فما معنى ان ننتصر لسادية البقاء في المناصب وان نزيد في ثبات ضياع فرص التغيير والقطع مع ثقافة الفساد،فالساكت عن الحق شيطان اخرس وفعل رخيص والوقوف تحت سقف لعب دور الضحية دون التضحية في سبيل حصر هذا الطوفان الجارف يرتقي بلغة القانون إلى مستوى المشاركة في الجريمة ،فلا فرق بين هذا وذاك ،كل ينفخ في الفساد على طريقته وبحسب قدرته.
إن من شان تحريك قواعد المسؤولية والمحاسبة تشكيل منظومة من القيم الردعية الذاتية والقبلية لدى الأفراد تحول دون الإقدام على ارتكاب أي جرائم في حق المال العام ،فالعقاب يشكل جرس إنذار لكل من تسوله نفسه مجرد التفكير في العبث بالمال العام وبالتالي فان العقوبة والمحاسبة تعد بحق إستراتيجية وقائية للمال العام واتقاء شرور الفساد والنفوس المريضة وعلى عكس ذلك نجد ثنائية الصفح واللاعقاب لاتساهم في تحصين المال العام وإنما تحصين قلاع الفاسدين والمفسدين وانتشار أيضا لحالات العود لدى جلادي المال العام ،فمحاربة الفساد قبل أن يكون واجبا سياسيا ،فهو متطلب أخلاقي قائم على أساس درئ المفاسد في إصلاح وصلاح الأمة،فواهم من يعتقد في قرارة نفسه أن ينجح في معركة البناء الديمقراطي دون اقتلاع جذور الفساد ا وان ينجح في أي إقلاع اقتصادي وتحقيق نسبة نمو جيدة دون محق أصول الفساد أو رفع قاطرة التنمية مع تسيد المفسدين ،فالديمقراطية هي عبارة عن منظومة متكاملة وآي خلل في احد أضلعها لا يمكن لها الإقلاع بأي حال من الأحوال،كما انه لا يمكن اختزالها في شقها السياسي المعتمد على حرية التعبير والانتخاب والاختيار وإنما أضحت الشفافية مطلبا يفرض نفسه من خلال تعزيز أنظمة الرقابة وتعزيز دور المواطن في حماية المال العام من خلال هيئات المجتمع المدني.