ليلى البلوشي
بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي كشرّ وجه العالم عن دولة أخرى تسعى إلى إحكام قبضتها على جميع الدول وهيمنة نفسها، وهي أمريكا؛ وقد مُني العرب بخيبات تاريخية كثيرة ومتراكمة، خلّفت نفسيات محبطة، وأخذوا بيأس يترقبون الفرج بصمت مريب وبائس هو الآخر؛ وفي مثل هذه الظروف انفقأ الفرج بالنسبة لهم في شخص رجل جاء حاملا معه، ليس خطابه القومي فحسب، بل أحلام وطموحات وآمال كل عربي في ذلك الوقت.
هذا الرجل هو "جمال عبد الناصر"، جاء وجاءت القومية معه، ويُعد صعوده أهم حدث في تاريخ العرب منذ قرون. فالعالم العربي في بداية الخمسينات كان خارجا للتو من العصر الاستعماري، وكان المغرب لا يزال تحت السلطة الفرنسية، وإمارات الخليج خاضعة للتاج البريطاني.
وإذا كانت بضعة بلدان قد نالت استقلالها، فإن الاستقلال كان شكليا صرفا، وعلى رأسها مصر التي كانت تحت حكم الملك فاروق الذي عرف بالملك الطفل، لأنه كان أشبه ما يكون بلعبة في يد الإنجليز، وهذا ما سبب غضبا وهياجا صارما من الشعب عليه، ونتيجة أسلوب عيشه وفساد محيطه وتساهله مع الانجليز، وانهزام جيشه المخزي أمام اسرائيل عام 1948م... كل تلك الأسباب الجامعة هيأت الانقلاب العسكري الذي قاده الزعيم "جمال عبد الناصر" ونجح فيه برضى جماهيري مصري وعربي واضح؛ فهو قد وضع حدا للنظام السابق واستكمل الاستقلال بالتخلص من النفوذ الانجليزي، كما أنه وعد جماهيره العربية باستعادة فلسطين من اليهود.
ومن ثم أصبح معبود الجماهير العربية وبرق نجمه عاليا خاصة في عام 1956م عندما نشبت أزمة السويس؛ لأنه أقدم على تحدي الدول الاستعمارية الأوروبية وخرج من هذا التحدي ظافرا.
مما لا شك فيه أن مرحلة جمال عبد الناصر كانت حازمة؛ فلقد دقت أزمة السويس ناقوس وفاة العصر الاستعماري وبات العالم يعيش في عصر آخر مع دول أخرى وقواعد لعبة أخرى. وبما أن عبد الناصر كان الكاشف لهذا التحول، ولأنه خرج رابحا من تلك المبارزة، فقد تحول بين ليلة وضحاها إلى وجه كبير على المسرح العالمي، وبالنسبة إلى العرب أحد أبطال تاريخهم الكبار .
ولكن عصر عبد الناصر لم يكن عصرا ذهبيا، والكاتب "أمين معلوف" يوضح ذلك، فالزعيم المصري مما لا شك فيه أصبح أسطورة يحتذى به، ويسير على نهجه كثير من الزعماء، ولعل على رأسهم العقيد "القذافي" الذي كان منطلقا بالقومية في أول فترة حكمه، ولكن سرعان ما حاد عن طريقه وهلك نتيجة ذلك على يد شعبه.
أما الرئيس المصري "عبد الناصر"، من أخرج بلاده وفق "معلوف" من التخلف، فلم يحسن إقامة مؤسسات سياسية عصرية؛ ومشاريعه الاتحادية مع الدول الأخرى منيت بالفشل، وتوج كل هذا بهزيمة عسكرية مدوية أمام إسرائيل.
ورغم كل ذلك ورغم تذبذب مراحل نجاح وفشل "جمال عبد الناصر" ظل انطباع عند العرب في مرحلته أنهم صنعوا تاريخا ولم يكونوا مجرد كومبارس عاجزين وتافهين ومحتقرين، ووجدوا في "عبد الناصر" زعيما يحمل ثقل خيباتهم المريرة طوال تلك الأعوام، وطالما أنه كسب شرعية من الجماهير المصرية والعربية، فإن كل التقصيرات التي نجمت في عصره لم تؤخذ في الحسبان؛ فهو وقف في وجه الاستعمار الأوروبي في أزمة السويس وأعاد جزءا من الكرامة العربية بوجهة نظرهم.
ولعل الأهم من ذلك هو رفضه الخضوع للاستعمار الأوروبي بشكل عام وهو ما تساهل معه الحكم السابق الملك "فاروق"، وذلك ما أفقده الشرعية.
المرحلة الفارقة بين عهد "عبد الناصر" واليوم هي أن الشعب العربي تعود على التغيير من قبل السلطات، أي انقلابات يقوم بها حزب ما، ثم يعيدون زمام الأمور باستلام الحكم، ولكن هذا الأمر يكاد يفنى بمفهوم اليوم، فالشعوب العربية دخلت مرحلة مختلفة جدا؛ وقديما كان هم الشعوب أن تنقذ نفسها وأوطانها من سيطرة قوات الاستعمار، وهذا ما تم بالفعل.
ولكن مع مرور الأعوام غدت السيطرة الاستعمارية تغزو عوالم الوطن العربي بطريقة مختلفة، حيث كانوا يتحكمون من الخارج من بعيد حيث هم في دولهم وعبر سلطات الحكومات والتي كان همها أن تحافظ على عرشها وتورثه لأبنائها، وهذا بالتحديد أدخل العالم العربي في ثورات الربيع العربي.
ومن خلال "البوعزيزي" شهد العالم العربي عصرا جديدا لمفهوم المقاومة والقومية؛ فبعد أن كانت مختصرة لحزب وسلطة وحكومة أصبحت اليوم بيد الشعب. الشعوب كافة هي من تقرر مصيرها وتخرج إلى الساحات والشوارع ترفع شعارات كرامتها وتهتف بعلو همتها، مطالبة بإسقاط أنظمة الفساد والطغيان والخضوع للغرب، مستندة إلى مبادئ الحرية والعدل والكرامة، وهلم جرا.
ولم تعد الحرية ومطامحها مختصرة في شخص واحد يكون رمزا ولا في زعامة متوحدة، بل أصبحت بيد الشعب ومنه وإليه.
ولعل أهم سبب لنهوض الشعوب العربية هي فقدان حكوماتها لشرعيتها في نظر شعوبها؛ فغياب الشرعية بالنسبة إلى كل مجتمع بشري هو شكل من أشكال انعدام الوزن الذي يخلخل كل السلوكيات؛ فمتى كانت أية سلطة، أية مؤسسة، أية شخصية لا تستطيع أن تحوز صدقية معنوية حقيقية كما ذهب "معلوف"؟
وأصبح اليوم لسان الشعب يردد مع الشاعر "توفيق زياد": "هل يعرف بعض الزعماء/ أن الثورة لا يصنعها هم/ في غرف العمليات/ بل يصنعها/ الشعب المتحد.. الوعي- بالدم/ في الشارع والساحات"؟