حورية الظـل
حين يتدلل المتمدرسون الصغار بالمدارس الخاصة، والأمهات أو المساعدات يتحايلن عليهم لشرب كأس من الحليب في الصبا ، وسيارة المدرس, بانتظارهم أمام باب بيتهم، يكون متمدرسون آخرون أقل حظا أو بدون حظ، في البوادي النائية والمنعزلة، ينتعلون أحدية بلاستيكية طويلة تقيهم الأشواك والحصى والبلل، يحملون محفظاتهم الثقيلة على ظهورهم ويقطعون مسافات طويلة، مخترقين طرقا جبلية وعرة أو تضاريس صحراوية قاسية، تحت شمس حارقة تكوي جلودهم الطرية أو برد قارس تتيبس له أطرافهم الصغيرة.
وجغرافية مغربنا غنية بالجبال الوعرة والصحاري الشاسعة، وكلما توغلنا مبتعدين عن الحضر إلا وازدادت قساوة التضاريس وتقلصت الإمكانيات المعيشية والبنيات التحتية التي تفك العزلة عن هذه المناطق.
وهذه التضاريس رغم قساوتها وجدت منذ القديم من يستوطنها ويتكيف معها، ولسكان هذه المناطق أبناء في سن التمدرس، ومن حقهم، لا أن توفر لهم الدولة المدارس فقط، وإنما تسهيل عملية تمدرسهم وأن تتم في أحسن الظروف، من خلال توفير المرافق والتجهيزات الضرورية ووسائل النقل، حتى تحبب المدرسة إلى قلوبهم وتجنبهم الهدر المدرسي الذي يعتبر آفة خطيرة تهدد بتجذر الأمية في بلادنا مع الأجيال الجديدة، فالكثير من التلاميذ مهددين بالانقطاع عن التمدرس وآخرون تم انقطاعهم فعلا نتيجة مشاكل تتوزع بين ما هو اجتماعي وتربوي ونفسي، ويعاني من هذه المشكلة تلامذة الابتدائي على الخصوص إن على مستوى المدن أو على مستوى القرى.
ومتمدرسي العالم القروي معرضون أكثر من غيرهم لآفة الهدر المدرسي لأسباب عديدة يمكن تلخيصها في النقط التالية:
• أمية معظم الآباء والأمهات،
• الفقر،
• تشتت المساكن وبعدها عن المدرسة،
• مساعدة الأهل في الأعمال الفلاحية،
• عدم توفر وسائل النقل المدرسي، وإن توفر فبنسبة قليلة لا تفي بالغرض.
إن أعلى نسبة للأمية تتمركز في القرى المغربية حيث هناك مناطق نائية تصل فيها نسبة الأمية إلى تسعين في المائة، فكيف نربط بين أمية الأبوين والهدر المدرسي؟
إن إطلالة بسيطة على مقررات التلاميذ وعلى المناهج التعليمية تجعلنا نتأكد بأن المتمدرس أصبح مطالبا بإنجاز العديد من التحاضير كل مساء تقريبا، وهي طريقة ناجعة لتقوية كفاياته ، لكن واضعوا هذه البرامج التعليمية لم يضعوا في حسبانهم بأن هناك شريحة كبيرة من مجتمعنا تعاني من الأمية، وخاصة ساكنة القرى حيث جل الآباء أميون ونتيجة ذلك لا يستطيعون مد يد العون لأبنائهم المتمدرسين ومساعدتهم في إنجاز تحاضيرهم، وبصفة خاصة متمدرسي المستوى الابتدائي، فاصطدام المتمدرسين بتحاضير يعجزون عن إنجازها لعدم توفر مساعدة أحد الوالدين يعرضهم لعدم المسايرة فيصعب استيعابهم لما يلقن لهم كما يتعرضون في كثير من الأحيان لعقاب المدرس، أو لا يلقوا الاهتمام الكافي من المدرس، وهذا الأخير له مشاكله التقليدية مع العالم القروي لأن أغلب المدرسين الذين يدرسون بالعالم القروي يعتبرون ذلك نفيا لهم،وهو نفي بالفعل، خاصة بالمناطق النائية حيث تضعف البنية التحتية الشيء الذي يؤدي بالمدرس إلى التغيبات المستمرة، خاصة في الأيام المطيرة حيث الطرق تصبح غير سالكة في المناطق الوعرة، وكذلك اكتظاظ الأقسام يجعل التواصل صعبا بين المدرس والمتمدرس كما أن طفل العالم القروي لا يستأنس بالتمدرس في التعليم الأولي، فيصعب التواصل أيضا معه، وكل هذه الأسباب تؤدي إلى نفور المتمدرسين من المدرسة وبالتالي تعرضهم للهدر.
من المشاكل المطروحة أمام متمدرس العالم القروي أيضا، وبالخصوص في القرى النائية، بعد المساكن وتشتتها، الشيء الذي يجعل المدرسة بعيدة، وهذا البعد يؤدي إلى إرهاق التلاميذ، خاصة وأنهم يضطرون إلى قطع عدة كيلمترات يوميا مشيا على الأقدام، وفي كل فصول السنة، فيعانون نتيجة ذلك معاناة كبيرة، والمتمدرس في العالم القروي يدخل المدرسة في سن السادسة، فكيف ستتحمل الطاقة الجسدية لطفل في هذه السن قطع أربع أو خمس كيلمترات في اليوم الواحد ومحفظته الثقيلة فوق ظهره؟ مضافة إليها ساعات الدراسة والتحصيل.
يعتبر التمدرس بالنسبة لمتمدرسي العالم القروي معاناة لا تنتهي فهي تسبب لهم إرهاقا غير محتمل ، وهذا الإرهاق ينعكس على تحصيلهم الدراسي فهم يصلون المدرسة وقد أخد منهم التعب كل مأخذ فيضعف تركيزهم، كما أنهم بعد عودتهم يحسون بالتعب والإجهاد فيعجزون عن إنجاز تحاضيرهم وينضاف إلى همهم انعدام من يمد لهم يد العون غالبا لأمية أبويهم.
ونتيجة فقر غالبية سكان القرى، ونتيجة كثرة الأعمال التي يقومون بها لتوفير لقمة العيش سواء في الحقول أو في تربية الماشية فإنهم يضطرون للاستعانة بأبنائهم في العطل وفي أوقات فراغهم للرفع قليلا من دخلهم، فيؤدي ذلك إلى ضعف التحصيل عند المتمدرسين.
والمتضرر الأكبر من الهدر المدرسي في العالم القروي هن الفتيات، وبالخصوص في المناطق النائية فجل الآباء لا يهتمون بتمدرس الفتاة وهي أمور تتحكم فيها العادات والتقاليد، حيث لا يزال تمدرس الفتاة يعتبر عيبا في جل قرانا، بالإضافة إلى بعد البيت عن المدرسة حيث يحجم معظم الآباء عن إرسال بناتهم للتمدرس خوفا عليهن.
ويعتبر الفقر كذلك من مسببات الهدر المدرسي لأن ضعف دخل غالبية سكان القرى نتيجة تعاقب سنوات الجفاف يجعلهم يعجزون عن توفير مصاريف تمدرس أبنائهم لارتفاع التكاليف وبالخصوص في السنوات الأخيرة. ولما يتجاوز التلميذ الابتدائي، إن لم تتوفر الداخلية يظطر الآباء إلى سحب أبنائهم من مدارسهم، وهذه الظاهرة تسري على الفتيات أكثر منها على الذكور، لأن الآباء لا يأمنوا أن تكون بناتهم دون مراقبة، وبعض الفتيات يكن جد متفوقات ورغم ذلك يحرمن من إتمام تعليمهن لهذه الأسباب أو تلك.
إن الهدر المدرسي مشكلة متجذرة على امتداد التراب الوطني لكنها أكثر حدة وأكثر تجذرا بالعالم القروي الذي هو في أمس الحاجة إلى نوع خاص من التعامل، تفرضه الإكراهات التي يعيشها هذا الوسط ، فهو في حاجة إلى فك العزلة عنه وربطه بباقي المناطق بالإضافة إلى توفير الماء والكهرباء والحجرات الدراسية، تجاوبا مع شعار اليونيسيف: "البنية التحتية قبل البرنامج البيداغوجي".
هناك مبادرات قامت بها الوزارة الوصية، للتخفيف من حدة الهدر المدرسي في العالم القروي، وإن كانت لا تزال محتشمة ولم تستطع القضاء على هذه الآفة سواء بالوسط القروي أو الوسط الحضري ومنها:
- مبادرة المليون محفظة، وهي مبادرة مكنت الأسر الفقيرة من الحصول على المحفظات وعلى الكتب المدرسية أو بعضها مجانا، وهو أمر يشجع الأسر الفقيرة على عدم سحب أبنائهم من المدارس.
- توزيع دعم مادي على تلامذة العالم القروي.
- المدرسة الجماعاتية: ويمكن اعتبارها البادرة الأهم ضمن الإصلاح التربوي في السنوات الأخيرة لكن لم ينجز منها إلا عدد قليل، فالرقم وصل ستة عشر مدرسة جماعاتية فقط، ويمكن اعتبارها مجرد نماذج، لأن المغرب في حاجة إلى عدد كبير من هذه المدارس، والتي من إيجابياتها ترشيد الموارد البشرية وجمع شتات المدارس النائية وإعفاء المتمدرسين من قطع مسافات طويلة من أجل التمدرس، وتمكينهم من الانتظام في مدارسهم لأنهم كلهم تقريبا في حاجة ماسة إلى النقل وإلى الإيواء وبالخصوص متمدرسي المستوى الآبتدائي لتشتت مساكن ذويهم وبعدها عن مدارسهم، فهم في حاجة إلى داخليات تلحق بمدارسهم وتستقبلهم لتجنبهم قطع المسافات الطويلة التي يقطعونها وتسبب لهم الإرهاق الذي يضعف مردوديتهم الدراسية، وبالتالي قد يؤدي إلى الهدر كما أن هذه الداخليات تجنبهم مساعدة الأهل في الحقول وما شابه وتمكنهم من التفرغ لدراستهم ،ومن عيش حياتهم المدرسية بشكل طبيعي، وهذه أمور توفرها المدرسة الجماعاتية.
- توفير النقل لكن بصورة جزئية، فيجب توفير الحافلات لكل متمدرسي العالم القروي الذين تبعد سكناهم عن مدارسهم، ويجب أن تسهم الجماعات المحلية والمجتمع المدني في الأمر بفعالية لأن أداؤهما باهت في هذا المجال،وهناك أيضا توزيع الدراجات الهوائية على التلاميذ وهو حل غير ناجع لأن الدراجة تصبح عبئا على المتمدرس، وليس حلا لمشكلة التنقل عنده، حيث يظطر لدفعها في المناطق الوعرة أو حملها لقطع الأنهار والمجاري المائية، فالحل الناجع هو تعميم الحافلات.
- الحفاظ على المتمدرسين في المدارس لسن الخامسة عشر.
هذه الحلول التي انتهجتها الوزارة الوصية في السنوات الأخيرة لم تحد من نسبة الهدر المدرسي في العالم القروي بنسب معقولة فالوضع لا يزال متفاقما والمشكل متجذرا ويحتاج جهودا جبارة من قبل الوزارة الوصية وكل الشركاء، فالعمل التشاركي هو الحل لكل المشاكل التي يتخبط بها المشهد التعليمي، فالوزارة تتوالى وصفاتها الجاهزة التي تجربها على قطاع يتوقف عليه مستقبل هذا الوطن، وللأسف دائما تثبت فشلها لأنها وصفات معدة من قبل تصور تقنوقراطي ومن قبل مكاتب الدراسات.