منتصر حمادة
كتاب "ربيع الغضب.. مقاربة أولية" للباحث المغربي سمير الحمادي، نقطة ضوء علمية رصينة تساعد المتلقي على قراءة أحداث "الربيع العربي" من وجهة نظر مغايرة تماما لما تم تحريره في أغلب ما صدر حتى حدود تحرير هذه الكلمات، على الأقل في الساحة المغربية، مما يتطلب التدقيق التالي:
نقرأ في أهم العناوين التي صدرت في الساحة المغربية في معرض قراءة أحداث الربيع العربي، المؤلفات التالية: هناك أولا كتاب "أسئلة حول انطلاق الربيع العربي" (عمل جماعي لعبد الحي مودن وعبد الأحد السبتي وإدريس كسيكس، وصدر عن جامعة محمد الخامس، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ط 1، 2011)، وكتاب "ربيع المغرب" صدر مطلع شهر أبريل الماضي، لمؤلفه رضوان زهرو، الخبير والمحلل الاقتصادي، وصدر عن منشورات "مسالك" (مطبعة النجاح الجديدة، ط 1، 2012، مع التذكير هنا أن كتاب رضوان زهرو مُخصص فقط لأحداث "الربيع المغربي")، وهناك أيضا كتاب "التفاؤل المُعلق.. التسلطية والتباسات الديمقراطية في الخطاب العربي الراهن"، بقلم الباحث محمد نور الدين أفاية. (جامعة محمد الخامس، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ط 1، 2011)، وقد اعتبر أحد الكتاب في يومية "الأحداث المغربية"، أن عمل أفاية "كُتب على فترات، لكنها جمعت في مقالة فكرية جد مركزة قد يتوسع فيها الكاتب فيما بعد"، وهناك كذلك كتاب الباحث سلمان بونعمان، ويحمل عنوان "فلسفة الثورات العربية" (صدر عن مركز نماء للبحوث والدراسات، ط 1، 2012)، ونجد أيضا في لائحة الأعمال، كتاب للباحث بلال التليدي وبحمل عنوان "الإسلاميون والربيع العربي"، وصدر عن نفس دار النشر ("نماء للبحوث والدراسات"، ط 1، 2012، والتي نشرت للائحة عريضة من الأقلام المحسوبة خصوصا على الحركات والأحزاب الإسلامية..)، وأخيرا، عمل جماعي صادر عن مؤسسة "منار الهدي" (الموالية لجماعة "العدل والإحسان")، ويحمل عنوان: "الربيع العربي وأسئلة المرحلة" (ط 1، 2012)، وصدر منذ بضع أسابيع، ونتمنى أن نتطرق لثنايا هذا العمل لاحقا.
كتاب سلمان بونعمان عمل نوعي، ويبقى الأقرب في الرصانة من كتاب "ربيع الغضب"، ضيف هذا العرض، والذي نعتبره، أهم ما صدر في مجالنا التداولي المغربي. (جاء الكتاب موزعا على 173 صفحة من الحجم المتوسط، ط 1، 2012).
يؤكد المؤلف بداية أنه عمله هذا يغلب عليه المنهج الوصفي، وهو منهج يعتمد، بشكل أساسي، على سرد الوقائع والأحداث، وترتيب أجزائها من دون الذهاب بعيدا في عملية التحليل، ولو أن واقع الحال في هذا العمل الرصين، يفيد أن المؤلف حاول قدر الإمكان المزاوجة، على نحو ما، بين المنهجين: الوصفي والتحليلي، بيد أن اهتمامه في النهاية، تركز على تقديم أكثر ما يمكن من المعطيات المرتبطة بالتحولات الجارية، اليوم، في الوطن العربي، بأقصى ما يمكن من التركيز والتكثيف، كما يتضح جليّا من كثرة الإحالة على المراجع.
خدمات معرفية بالجملة
أول ما يثير القارئ/ الناقد في كتاب "ربيع الغضب"، أنه يكاد يكون عملان في عمل واحد، فالكتاب الذي جاء موزعا على 173 منقسم في الواقع على نصف مُخصص للمتن (من ص 9 إلى ص 96)، والنصف الآخر مُخصص للهوامش والمراجع (من ص 97 إلى ص 172)، وواضح أنه قَلّما نصطدم بثصل هذا التقسيم في أغلب ما يُصدر من أعمال هنا أو هناك؛ هذه ملاحظة أولى.
نأتي للملاحظة الثانية، أو ملاحظات عدة تُخول لنا الحديث عن لائحة من الخدمات المعرفية التي يقدمها الكتاب للقراء، (وهو في الأصل، زبدة عمل سيصدر قريبا للمؤلف يحمل عنوان "رهانات الثورة والتغيير في الوطن العربي")، ولو أن الكاتب ركز أكثر في ثنايا الكتاب على أحداث الربيع التونسي والربيع المصري. (والذي يتجه لأن يصبح "خريفا إسلاميا"، مُخطط له بعناية دقيقة من قبل أطراف خارجية وإقليمية...)
من الخدمات الهامة التي يقدمها الكتاب (وهذا ما يتضح جليا في جزئه الثاني المخصص للهوامش والمراجع)، أن قراءة المؤلف لأحداث "الربيع العربي"، جاءت مؤسسة على قراءة وتصفح المئات من الكتاب والدراسات والمقالات، ويكفي مثلا، أن يعلم المتلقي بأن آخر هامش/ مرجع يحمل رقم 487، وأنه في العديد من المراجع، نجد لائحة مركبة من المراجع كما هو الحال مع المرجع رقم 390، والمخصص لاستعراض مختلف وجهات نظر حول أسباب استمرار العجز الديمقراطي العربي، حيث تضمن بدوره لائحة عريضة من المراجع، موزعة من ص 151 إلى ص 153.
ورُبّ قائل يعترض على هذا التقييم، الذي يصف كتابا من 173 صفحة فقط، كونه يضم إحالات على المئات من المراجع، لولا أن متصفح الكتاب سيخلص لا محالة بأن الإكراه المادي/ المالي حال دون أن يصدر الكتاب في عدد صفحات لا يقل على 400 صفحة من الحجم الكبير.
"الربيع العربي" ومأزق الإطار التفسيري
الإطار التفسيري الذي تبناه الكاتب يُعتبر بدوره من بين أهم الخدمات المعرفية التي يُقدمها الكاتب للقارئ، وتحيلنا في الواقع على نصائح/ مفاتيح المفكر الموسوعي عبد الوهاب المسيري، الذي كان يُفرق بين النموذج التفسيري الاختزالي (المهيمن بشكل كبير في الساحة العربية، بما في ذلك النماذج التي تُقدم في معرض قراءة أحداث "الربيع العربي")، والنموذج التفسيري المُركب؛
ففي هذا الإطار، يرى الحمادي أنه منذ انفجار الحراك الثوري العربي، في تونس أولا، في نهاية سنة 2010، وامتداد ضجة الموج، في غياب أي تأطير سياسي، أو توجيه إيديولوجي، إلى بلدان أخرى (مصر، اليمن، ليبيا، سوريا)، والمحاولات التفسيرية التي تركض، على أكثر من سرعة، لضبط البنية التكوينية المؤسسة لهذا الحراك، ورسم صورة كاملة له قدر الإمكان، ما فتئت تتدفق من / وفي كل الاتجاهات. بعض هذه المحاولات طرح (ويطرح) ضمن نسق أكاديمي، ويعتمد التفسير العلمي المنهجي، وذلك بغية فهم المنطق الذي يحكم المشهد بأكمله والحالة برمتها، أي فهم الحدث في سياقه الكلي، وإدراك بنيته المركبة التي تفاعلت في حدود مجالاتها شبكة معقدة من العوامل والتجاذبات، في حين لا يتعدى البعض الآخر حدود الانطباعات الخاصة، التي تتحكم فيها أهواء وانفعالات أصحابها، المرتبطة، تارة، بخصوصية هذه التجربة المدهشة وغير المسبوقة في التاريخ العربي الحديث والمعاصر، والمحكومة، تارة أخرى، بتصورات وقناعات إيديولوجية خاصة.
وفي كل الأحوال، يضيف الحمادي، فإن الفرضيات التفسيرية التي قُدمت حتى الآن، وأفاض في بيانها المحللون ومراكز التفكير في العالم، متفقة كلها على عدم جواز تقييد أسباب هذا "الربيع العربي" في مجال محدد، وحصرها في عامل واحد فريد من نوعه، مهما كانت قدرته التفسيرية عالية، بل ينبغي النظر إلى الصورة، وإلى المشهد، من أكثر من زاوية، في ضوء تفاعل مصفوفة مركبة من الأوضاع والخلفيات المتنوعة، أي مقاربة الموضوع من خلال نوعية خاصة من القراءات لا تقيم وزنا للفواصل القائمة بين المعارف، ولا تسقط في بئر الانحياز إلى رأي دون آخر، أي قراءة عابرة لمجالات تخصص متعددة، تسوقها ريح المعرفة في كل الاتجاهات. من هذا المنطلق، جرى استحضار حزمة كاملة من المعطيات التقليدية الخاصة بالوطن العربي، في أحواله السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتاريخية، التي كان لها، بهذا القدر أو ذاك، دور في صوغ حالة الانسداد التاريخي في هذه المنطقة، على هذا النحو، وإلى هذه الدرجة، التي جعلت المجتمع العربي يبدو، بشكل بارز، هامشيا بين مجتمعات العالم الحديث والمعاصر. وإذ تتضمن موضوعات هذه الحزمة، بشكل أساسي: تسلط الدولة العربية واستبدادها واستنزاف ثرواتها ونهب مواردها وإشاعة الفساد في هياكلها، وما يرتبط بها من أزمات في أكثر من مجال: أزمة الديمقراطية التي أدت إلى تدهور كثير من مستويات الحقوق السياسية والمدنية بشكل كامل، وأزمة الشرعية التي أدت إلى تراجع الحصانة الداخلية للنظم الحاكمة بشكل صارخ، وأزمة التبعية وانعدام السيادة في العلاقات مع الخارج التي جعلت الأرض العربية مكشوفة تماما، وهي كلها عناصر ثابتة، على نحو بارز، في البيئة العربية، فإن المتغير، هنا حسب المؤلف، هو تصاعد الأفق المطلبي للمجتمعات العربية، خاصة الفئات الشابة التي تمثل العنصر الغالب على التركيبة السكانية (تكاد تكون من أعلى المعدلات في العالم)، التي اكتشفت، أخيرا، أنها تجاوزت، منذ زمن بعيد، مرحلة الفطام.
فيما يتعلق إذا بأهم المسببات التي أفرزت أحداث "الربيع العربي"، فقد لخصها الكاتب في ثلاثة عوامل يربط بينها تساند وظيفي: هناك أولا ظاهرة العجز الديمقراطي (ص76)، وهنا يرتحل مع اشتباك عوامل داخلية وعوامل خارجية؛ وهناك ثانيا أزمة الشرعية (ص 82)؛ وأخيرا هناك معضلة الفساد ص 86)، كما توقف أيضا عند أدوار العوامل الحاسمة، وقد لخصها على الخصوص في تأثير الإعلام الجديد (الفضائيات على الخصوص ابتداء من ص 91)، وفاعلية الإعلام البديل (الإنترنت،ص 93)، بما يتطلب التوقف ولو في عجالة عند تأثير الشبكات الاجتماعية.
نقد التضخيم من دور الشبكات الاجتماعية
أثير لغط كبير حول دور الشبكات الاجتماعية في اندلاع أحداث "الربيع العربي"، وكان علينا انتظار صدور كتاب طارق رمضان الأخير "الإسلام والنهوض العربي" (نونبر 2011)، حتى التحذير من أدوار هذا الفاعل، وقد وَجّهَ رمضان انتقادات صريحة إلى المسؤولين الأمريكيين في تدريب نشطاء عرب من بضع سنين في الساحة العربية، وبالطبع، لم ولن نطلع على أي مادة إخبارية نوعية لكتاب طارق رمضان في المنابر الإسلامية الحركية (المغربية نموذجا) ولا في الفضائيات العربية البارزة، بحكم أن الرجل، وَجَّه سهام النقد للجميع.
في معرض تقييم دور هذه الشبكات الاجتماعية، يرى ضيف هذا العرض أن هذه الأخيرة وإن استخدمت كسلاح أساسي في هذه الثورات، وقدمت لها الكثير، فإن هذا لا يعني أن يأخذ دورها أكثر من حجمه الحقيقي، ويوكل إليها، بشكل أساسي، النجاح الذي تحقق حتى الآن في مجتمعات الربيع العربي. فهي بذاتها محدودة الفعالية، ولا يمكن أن تكون المحرك الأساسي لثورات في مستوى الثورات العربية في مساراتها الأكثر تنوعا، وتتوفر الأدلة على ذلك. ففي مصر عطلت الحكومة الانترنت في الأيام الأولى للثورة، وكانت أياما حاسمة، ومع ذلك لم تتوقف الحركة، ولم تنقطع المظاهرات، ولم يعد أحد من ثوار "التحرير" إلى بيته.
من المهم التذكير في هذا الصدد بصدور كتاب يرتحل مع هذا الملف بالذات، ويحمل عنوان: "الإنترنت والديمقراطية: إنعاش وتجديد أم تقويض وتأزيم"، (منشورات الزمان، العدد 32 من سلسلة شرفات، ط 1، 2011)، للكاتب عبد النبي رجواني، ويتضمن الكتاب بالإضافة إلى التقديم بعض الفصول حول "الاتصال السياسي ما قبل الإنترنت" و"الديمقراطية الالكترونية؟" و"الإنترنت والرأي العام"، و"الإنترنت وفضاء للتداول" و"الإنترنت، الأحزاب السياسية"، وبخصوص دور الإنترنيت في إنضاج شروط المواطنة وتحصين الديمقراطية، يرى عبد النبي رجواني أن الإنترنيت مجرد أداة قد "تخدم الإرادة والإرادة المضادة والسلطة والمعارضة والشفافية والتعميم الانفتاح على الاختلاف والدوغمائية".
من مفاتيح العمل والأحداث في آن، ونتحدث عن كتاب "ربيع الغضب"، ذلك الذي اقتبسه الباحث من دراسة لجيمس بيل وكارل ليدن، في معرض تحليلهما لخصائص النظم السياسية العربية، أكد أنه بصرف النظر عن الأنماط التي يمكن أن تُصنّف إليها النظم العربية، فإن هذه النظم كافة تعبر في ممارسة السلطة عن نمط الحكم الأبوي ــ الرعوي الذي يتميز بست خصائص، هي على التوالي: ــ الممارسة الشخصية للسلطة، الاقتراب من الحاكم كمحدد للتأثير السياسي، انعدام الرسمية، الصراع المتوازن، القوة العسكرية، وأخيرا، التبرير الديني للسلطة.
في انتظار إزالة الغبار الأجنبي
قد يكون من المبكر ادعاء القدرة على النفاذ إلى جزئيات المشهد الراهن في كامل أبعاده، واجتراح مفردات تحليلية جديدة مؤسسة على المعرفة والحقائق لكل التجاذبات الصراعية، بحكم أن الغبار ما يزال كثيفا، والأبعاد الكاملة للصورة لم تتضح بعد، وكثير من التفاصيل، وهي متشابكة على نحو معقد، ما تزال في حالة سيولة، وكثير من المسارات، وهي موزعة على أكثر من خط واتجاه، ما تزال غير محددة بالقدر الكافي، بحيث لا نعرف أين تنتهي الأحداث، وأين تنتهي ارتداداتها، والتقييم للمؤلف دائما، لولا أن مقاربة النموذجين التونسي والمصري، وهما النموذجان المؤسسان، من شأنها، أن تنير، بقدر ما، ظلام الفهم حول طبيعة وحقيقة الملابسات والتفاعلات الموضوعية اللصيقة بالتحولات الجذرية الجارية في المنطقة، وهذا عين ما توفق فيه بشكل كبير الكاتب في "ربيع الغضب".
وإن كانت هناك ملاحظة نقدية نؤاخذها على العمل، الذي نُجدد التأكيد على أنه يُعتبر من وجهة نظرنا على الأقل، أهم ما صادر في الساحة المغربية (وربما العربية)، بخصوص التفاعل التأملي مع أحداث "الربيع العربي"، فتكمن على الخصوص في عدم الترحال أكثر مع تفاصيل العامل الخارجي، ولو أن المؤلف، توقف فعلا عند هذا العامل/ الفاعل، إلا أن تركيزه على لائحة من المقتضيات المحلية لهذه الأحداث، وتهم صراعات أهل الداخل، قضايا الفساد، سؤال الشرعية، مفاهيم الثورة.. إلخ، حالت دون أن يرتحل أكثر في الدور المحوري والخطير ذلك الذي يقوم به العامل الخارجي، وهذه أهم "حسنات" أو مُميزات العمل الصادر عن طارق رمضان.