غسان إسماعيل عبد الخالق
الكم ظاهره حسن، لكن التأمل في باطنه قد يكون صادما. عام ونيف انقضى على انطلاق الربيع العربي، ولم نظفر حتى الان بمساهمات فكرية مرموقة تترجم ما لحق بالشارع العربي من تغيرات او انكسارات الى طروحات او تشخيصات يمكن ان تحدث انفراجا في الافق السياسي الذي يبدو انه وصل الى طريق مسدود. بل ان هناك احجاما يكاد يكون مشتركا ومقصودا من طرف المفكرين العرب المرموقين، عن الخوض في اشكاليات والغاز الربيع العربي، توجسا او ترقبا او رغبة منهم في النأي بأنفسهم عن معاينة حدث متحرك على مدار الدقيقة والساعة واليوم.
في موازاة هذا الإحجام الفاقع، يمكننا أن نرصد عشرات الأسماء التي طفت على سطح الأحداث مدججة بمسمى (مفكر)، إلى الحد الذي قد يستفز آلاف الشعراء العرب الذين كانوا يستأثرون بامتياز العدد الأكبر قبالة سائر المشتغلين في كل حقول الثقافة العربية. وهكذا فقد أصبح كل باحث سياسي متوسط المستوى مفكراً سياسياً، وصار كل كاتب عادي في الاقتصاد مفكراً اقتصادياً، وغدا كل ضابط متقاعد مفكراً استراتيجياً، أما الأكاديميون فحدث ولا حرج، إذ أن هواتفنا الخلوية تعج يومياً بالرسائل الرقمية التي تؤكد ظهور عشرين واحدا منهم في عشرين محطة فضائية.
نحن نقدّر طبعاً، أن الإعلام العربي الذي بوغت بما حدث منذ عام ونيف، قد وجد نفسه أمام حفرة عميقة لا بد من ملئها بالصوت والصورة، وقد اضطر -وما زال- إلى الاستعانة بكل من يمكن الوصول إليهم من المعنيين، لكن هذا الانفتاح القسري على كل من هب ودب من المعلّقين، لم يفرز حتى الآن منظّرين يمكن القول بأنهم شكلوا طفرة فكرية موازية للطفرة السياسية التي ما زالت تتدحرج في الشارع العربي.
نقدّر أيضاً، أن الإعلام العربي ملزم مهنياً باعتماد الصفة التي يختارها المعلّق لنفسه، لكن هذا الالتزام المهني قد لا يكون دائماً على صواب، لأن صفة (المفكر) مثلاً لا تصرف مجاناً وإلا أصبحت بلا معنى، كما هو حال آلاف الشعراء ومئات الروائيين والقصاصين والنقاد؛ فالأصل في هذه الصفة القدرة على انتاج الأفكار وتركيبها وتحليلها ونقدها وليس القدرة على اجترارها أو استعراضها أو وصفها. والمفكر يقف قريباً جداً من الفيلسوف وبعيداً جداً عن المثقف العادي، لأنه اختار أن لا يكون ناسكاً أو كاهناً في محراب الفلسفة المحضة وأن لا يكون قارئاً محايداً لما ينتجه الآخرون من أفكار في الوقت نفسه، ولهذا فقد كان ابن رشد فيلسوفاً محضاً وكان ابن خلدون والطهطاوي والأفغاني وحسين مروة مفكرين.
كثيرة هي الآمال والتوقعات التي عقدت على الربيع العربي، وما زالت برسم الاختبار، وكثيرة هي الفقاعات التي تشكّلت خلال هذا الربيع، لكن الزمن الذي ما زال يضن على قامات كبيرة مثل طه حسين والعقاد وأحمد أمين بصفة المفكّر دون جدل أو منازعة، كفيل بأن يفقأ كثيراً من الدمامل؛ وهل يعقل أن يتحفظ مفكر مثل محمد دكروب على إطلاق صفة المفكر على نفسه، وأن يبادر عشرات المعلقين في الصحف ومحطات الاذاعة والتليفزيون إلى انتحال هذه الصفة ومعظمهم لم يصدر كتاباً واحداً ولم ينشر بحثاً، بل ان بعضهم لم ينه الدراسة الثانوية؟! وهل يعقل أن يكون هناك مفكر دون أن نعرف المنظومة الفكرية التي صفّها أو التيار الفكري الذي ابتدعه أو التلاميذ الذين اتبعوه أو الجدل الذي أثاره؟ يقينا فإن (الفوضى الخلاقة!) لم تفكك البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية العربية فحسب، بل هي فككت البنى الثقافية أيضاً وأفرزت (سيركا) ثقافياً يعج بمئات الحبال لمن أراد أن يغامر أو يقفز من الهواة والعابثين، ما دام أن المعلمين الكبار قد اختاروا التقاعد والانزواء في مكاتبهم ومكتباتهم، وقد قال العرب قديماً: خلا لك الجو فبيضي واصفري!.
نقلا عن جريدة "الدستور الأردنية"
.