الاستشارات السلطانية في المجال العسكري
طرح الفكر السياسي المغربي المسألة العسكرية بنوع من الحدة ابتداءا من سنة 1844 إثر هزيمة الجيش المغربي أمام القوات الفرنسية بإيسلي. حيث ألفت عدة كتب قدمت كاقتراحات للسلطان تبرز أهم الإصلاحات لتجاوز كبوة الحرب. ذلك أنه قبل هذه المرحلة لم يشعر حكام المغرب بالحاجة إلى الإصلاح العسكري. لأنهم وجدوا في النظم الموروثة من الأجداد " ما مكنهم من إيقاف المد الأوربي".
طرحت المسألة العسكرية بحدة أكثر بعد هزيمة تطوان حيث أجمعت المصادر على أن " هزيمة المغرب فيها لم تنشأ عن الجبن. أو لبخل بالتضحية إنما السبب الأكبر في ذلك هو الفوضى وقلة التنظيم أو عدمه"لذا تعالت صرخات المفكرين بضرورة تنظيم الجيش. وكان السلطان أول المدركين لفوضوية جيشه . لكن تنظيم جيش قوي يحتاج إلى أموال باهضة لا يستطيع بيت المال توفيرها وقتذاك، فكان لا بد للسلطان من البحث عن حل للمشكل، ووجده في فرضه معونة على الرعية. وطبعا لن يتم هذا إلا بتبرير شرعية المعونة من طرف العلماء. فما موقف العلماء من تحديث الجيش والمعونة؟
استشارة السلطان محمد بن عبد الرحماى حول تحديث الجيش
بعد حرب تطوان تقدم السلطان إلى علماء المغرب يستشيرهم عن حكم تنظيم الجيش وإحداث المعونة . وأكد أن التحديث أصبح من الضرورات الملحة للقيام بالواجب الديني. وبذلك بعث السلطان عدة رسائل إلى العلماء والتجار والأمناء، في بداية الرسالة ابرز السلطان مشكلة تموين الجيش ثم عرض المسألة على التجار لإبداء رأيهم فيها نظرا لخبرتهم في المال وقدرتهم على تحديد مقدار المعونة المفروض على كل شخص دون التسبب في أي ضرر للرعية. كما استشار السلطان العلماء لقدرتهم على الإقناع بالشرع وتقريب الجباية من قلوب المغاربة، وكان عدد العلماء المستشارين عشرة منهم أبو محمد عبد السلام. محمد بن المدني كنون...وغيرهم.
أدلى مجموعة من العلماء بأجوبتهم في النازلة، نذكر من ضمنها جواب المهدي بن سودة الذي قال " هذا وإن بلغ حد الاشتهار..أن البارود لم يكن في زمانه صلى الله عليه وسلم.. حتى كانت أواخر المائة الثامنة فحدث البارود..فعلم أهل الإسلام أن غيض الكفار لا يكون إلا باتخاذ البارود والقتال به إذ الشيء لا يقابل إلا بمثله أو أقوى منه، فالمطلوب من سيدنا الهمام.اتخاذ جيش يكون درءا لأهل الإسلام..لأن النظام..هو عبارة عن نظم أمور في الجيش راجعة لتقوية فائدته اتخاذ النظام البوم قوة مستطاعة للمسلمين على الكفار..أن يوسع عليه ( الجيش) أكلا وشربا" أجاز المهدي بن سودة تنظيم الجيش على الطريقة الحديثة لمواجهة العدو بنفس أسلوب قتاله ودعا إلى مزيد من العطاء المالي للجنود لما يبذلونه من خدمات لصالح البلد ولضمان ولائهم، وطبعا لن يتوفر هذا المال إلا بمساعدة الرعية للمخزن. ونفس الإجابة تقريبا وردت عن العلماء مع اختلاف صيغ التعبير.
استنادا إلى أجوبة العلماء استمد السلطان الشرعية لتحديث الجيش وجمع المعونة من الشعب. وفعلا قام السلطان بتنفيذ هذا الإجراء. وسيتابع خلفه الحسن الأول نفس الأسلوب الإصلاحي. وليوفر مصاريف ذلك، استشار في سنة 1876 العلماء عن حكم توظيف المعونة لتنظيم الجيش المغربي فتملص عدد كبير من العلماء من الإفتاء بجواز فرض المكوس خصوصا مع ما أثاره مشكل المكوس من ثورات كثورة الدباغين بفاس.
وطبعا كان من الـعلماء المخزنيين من تصدى للإجابة حيث ألف علي بن محمد السوسي" كتاب سماه" عناية الاستعانة في حكم التوظيف والمعونة" اعتبر فيه أن التحديث لم يكن اختيارا، بل كان ضرورة للدفاع عن النفس، وحاول فصل المعونة عن المكس اعتبارا منه أن الفقهاء اتفقوا أن" التوظيف يفرض لمصلحة داخلية عامة أو لدرء الخطر الخارجي" وبذلك فالتوظيف لتحديث الجيش الذي بواسطته سيتم درء خطر خارجي ليس مكسا. والتمس السملالي لتبرير جوابه حججا فقهية وتاريخية للفصل بين مفهوم المكس والمعونة وكتاب "عناية الاستعانة" هو محاولة للتوفيق بين إقرار المعونة ومطلب التحديث العسكري ، ويظهر من خلاله تأرجح الفقيه بين الدين والسلطة، ومحاولته التوفيق بين ما يطلبه السلطان وما ينص عليه الشرع ويقره.
وعموما فإن كلا السلطانيين وجدا في صفوف العلماء من يضفي المشروعية على مشاريعهم الاصلاحية، لكن السؤال يظل مطروحا هو مدى نجاعة هذه الاصلاحات في ظرفية المغرب المتأزمة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.