تتمة...
استشارة السلطان الحسن الأول بصدد قضية الوسق
جرت العادة عند سلاطين القرن التاسع أن تتم الاستشارة على مستويين. أولها حاشية السلطان الذين وصفهم بقوله" اسشرنا فيه جميع من يشار إليه بالخير والفضل والدين والعقل...موثوقا بديانته وأمانته"،هؤلاء أشاروا على السلطان في مسألة الوسق"أن لا مصلحة في تسريح ذلك أصلا وبرروا سبب رفضهم لما سيجلبه التسريح من غلاء الأسعار الذي سيضر الفقراء من الرعية . ونظرا لرفض هؤلاء المستشارين المصادقة على تسريح البضائع التي طلبها الأجانب فإن السلطان وجه الاستشارة إلى المستوى الثاني الذي يمثله العلماء الذين سيجدون في النصوص الشرعية ما يبررون به قبول ما يريده السلطان.
شارك في الرد على الاستشارة حسب المنوني في دراسة عن " النخبة المغربية من فاس وما إليها"، ويقصد بالنخبة من كانت كتابات القرن التاسع عشر تسميهم "الخاصة وأولي الحل والعقد". ولنفس الهيئة أرجع ابن زيدان الإفتاء في النازلةبقوله: "وجهت..لخواص الأمة من أهل فاس علمائها وتجارها ومرابطيها".اتفق الجميع على أن الاستشارة وجهت لهيئة مثلت المثقفين من أهل فاس باعتبارهم المؤهلين للفصل في النازلة. فوجه لهم السلطان رسالة أوردها الناصري في "الاستقصا" و مما جاء فيها"أما بعد فقد طلب منا بعض نواب الأجناس بطنجة تجديد شروط التجارة بقصد تسريح الأشياء الممنوعة الوسق. كالحبوب مطلقا والأنعام..ونقصان صاكة الخراج ذاكرين أن تسريح ذلك فيه النفع لبيت المال والرعية".
في بداية رسالته طرح السلطان المشكل العالق، ورصد مطالب الأجانب وأبرز أنه يحاول العمل بما يناسب الظروف ثم أكد على صفاء نيته بقوله" وحاش الله أن نتسبب للمسلمين في غلاء أو نوافق لهم على ضرر"، كما أشار السلطان إلى جواب الهيئة الأولى التي رفضت تسريح البضائع للأجانب، وأكد أن الظروف هي التي فرضت عليه توجيه الاستشارة للعلماء للبث فيها، وإيجاد وسيلة سلمية للتعامل مع الأجانب حيث قال" ولما رأينا الأمر استحال إلى أسوأ حال أو كاد تداركنا هذا الخرق بالرفض وجنحنا إلى السلم..وارتكبنا أخف الضررين فاقتضى نظرنا الشريف أن نظهر لكم درءا لتلك المفاسد...أن يساعدوا على تسريح أشياء بقصد الاختبار...كالقمح والشعير وذكران البقر والغنم..ثلاث سنين فقط على شرط الأختبار في المنفعة التي ذكروها في تسريحه الكل بأعشاره..على أن يكون تسريح ذلك في وقت غلته..مدة ثلاثة أشهر"، ويظهر من كلام السلطان رغبته في مسالمة الأجانب لإدراكه ضعفه العسكري أمامهم. لذلك طلب تسريح ما يطلبونه من بضائع ارتكابا لأخف الضررين، زيادة على أن التسريح سيشكل موردا أساسيا لمداخيل بيت المال، وفي النهاية ختم رسالته بقوله" ولتعلموا أنكم لن تزالوا في سعة فإن ظهر لكم ذلك، فالأمر يبقى بحاله وإن ظهر لكم ما هو أسوء في الدفاع عن المسلمين فاعلمونا، به إذ ما أنا إلا واحد من المسلمين"، واعتبر بعض المؤرخين النازلة عبارة عن استفتاء شعبي عام. وقرأ نص الرسالة السلطانية في مسجد القرويين بفاس لمناقشة القضية.
أفتى في النازلة عدد كبير من العلماء. كان منهم من رأى أن"يقضي بعدم الإسعاف والإسعاد مع تفويضهم له وتصريحهم بأنه ليس لهم بين يديه كلام"ويظهر من كلام هؤلاء العلماء تذبذب موقفهم،فرغم عدم اقتناعهم بالتسريح إلا أنهم فوضوا النظر في النازلة إلى السلطان. وكان في مقدمة العلماء الذين حرروا أجوبة في النازلة جعفر بن ادريس الكتاني. وأمضى جوابه مجموعة من العلماء منهم حميد بن محمد بناني وعبد الهادي بن أحمد الصقلي وعبد السلام بن سودة وغيرهم فإجابتهم نموذج لإجابة العالم المخزني الذي كان همه تسخير علمه لمصلحة المخزن حيث قال الكتاني"..وصلنا كتاب سيدنا..يستشير فيه رعيته ويستخبر في شأن ما يطلبه نواب الأجناس..فليعلم أنه ليس لنا بين يديه كلام ولا لإجاباتنا مع وجود عزته جواب"،وأورد الكتاني عدة نصوص تدل على مشاورة الرسول لأصحابه في المواقف الحاسمة. ووضع الكتاني سبب قوله تسريح ما طلبه الأجناس بقوله" وقد تأملنا أحوال الله اليوم فوجدناها كلها دالة على أن قصدهم بصحبة المسلمين والخدمة معهم وإعانتهم على الحرب هو الدلالة على عداوتهم". فموافقته نتيجة لخوفه من قوة الأجانب وإداركه لضعف المغرب.
لذلك نصح الكتاني السلطان بأن يعمل معهم "المهادنة لحل معلوم وأمر معين ومحتوم". وبذلك يستطيع المغرب إعادة تكوبن نفسه.
نفس الرؤيا جسدها الناصري في جوابه الذي يؤكد فيه على ضرورة مهادنة الأجانب " لأنهم بلغوا اليوم من القوة إلى الحد الذي لم يكن لأحد في ظن" كما أن تسريحه البضائع سيعود بفوائد مالية مهمة لأن الأجانب إذ اشتروا البضائع المغربية فإنهم سيأخذوها بأثمان مرتفعة إضافة إلى ذلك لن يؤثر على السوق الداخلية لأن الإنتاج متوفر، وفي الأخير وكغيره من العلماء رجح الناصري رأي السلطان في الموضوع بقوله" فمن الرأي الذي لا رأي فوقه أن نفوض إليه في ذلك ونثق بحسن رايه،أي بأن الأمر في ذلك إليه...فما اختاره.. اخترناه". كان ذلك موقف العلماء المخزنيين، أما العلماء اللامخزنيون فإنهم رفضوا تسريح المسوقات وحل المسألة سلميا. لكن السلطان لم يلتفت لآرائهم وهؤلاء هم الذين وصفهم الناصري بأنهم "من العامة الأغمار الذين لم يجربوا الأمور". أما تقييد العلماء. فقد أدوا فيه الواجب تذكيرا ونصحا. وقد انتقد السلطان أجوبة مستشاريه كل فريق على حدة بقوله "أما الشرفاء العلويين...ومن نحا نحوهم في رد الأمر إلينا ...فقد أدوا من الواجب بعضه..أما أهل زرهون فمن قبيل هؤلاء غير أنهم معذورون إذا لم يبلغوا مبلغهم من الذكاء" لقد فضل السلطان الحل السلمي وسرح البضائع التي طالبها الأجناس الذين حققوا مطالبهم الواحدة تلو الأخرى بموافقة السلطان والعلماء.