ذ جمال حيمر
تمخض عن التدخل الأوربي في مغرب القرن التاسع عشر بروز قضايا مستحدثة لم يكن للمغاربة عهد بها. فكان لا بد للعلماء من البث فيها. باعتبارهم يشكلون الطليعة العالمة بنصوص الشرع. يعبرون دائما عن جانب المشروعية. والسلطان في الفكر الإسلامي يستمد قوته من الشرع، وحتى إذ لم يرض على فتاوي بعض الفقهاء يلجأ إلى فتاوى مضادة من هيئة فقهية أقل تصلبا. وقد ألفت عدة كتب ردا وجوابا على استشارات سلطانية في مجالات مختلفة (سياسية – عسكرية- مالية – تجارية).وسنكتفي بالتعريف ببعض النماذج من هذه الاستشارات ومنها:
الاستشارات السلطانية في الميدان المالي
توالت سلسلة من الأزمات على المغرب بعد حرب تطوان، كانت أولها وآخرها الأزمة المالية الناتجة عن معاهدة الصلح بين المغرب واسبانيا التي فرضت على المغرب دفع عشرين مليون ريال مقابل خروجها من تطوان.وما استولت عليه من أراضي بينها وبين سبتة. ولم يستطع بيت المال تسديد سوى الربع من هذه الغرامة. ويظهر حسب تعبير المؤرخ محمد داود أن هذه الأزمة المالية أوقعت الدوائر المخزنية في حيرة. فصارت تبحث يمينا ويسارا لعلها تجد مخرجا لها من تلك الأزمة وكمحاولة من السلطان لحل المشكل وجه استفتاء للعلماء في شأن فرضه معونة على الشعب لدفع مال الصلح.
استشارة السلطان محمد الرابع حول إحداث المعونة
واجهت الحكومة المغربية صعوبات وعراقيل لجمع المال المتفق عليه كأساس للصلح وتسديد الغرامة في وقتها المحدد. وكان السلطان يعلم ما يعتري بلاده من فوضى حيث كانت المدينة وحدها تخضع للسلطة في حين كانت البوادي والقبائل ترفض دفع الضرائب لذلك فكر السلطان في وسيلة تساعده للوصول إلى الشعب الذي سيساعده ماديا. فقام بعدة مشاورات في مقدمتها مشاورته لعمه العباس في رسالة جاء فيها" أما الإعانة التي أشرت بفرضها على تلك الإيالة فلا بد من المفاوضات مع اهل الدين من أهلها في القدر الذي يليق أن يفرض على كل قبيلة. فتفاوض مع من تعرفه دينا، عارفا بأحوال قبائل تلك الجهة وأعلمنا بما أشار به على سبيل التفصيل لنكتب لهم به".
إن حنكة السلطان السياسية دفعته لإرجاع المسألة لأهل الدين لعلمه بما كان للعلماء من تأثير على العامة ولقدرتهم على تأويل النصوص الشرعية لخدمة ما يراه السلطان ملائما، وقد أمر السلطان الوزير الطيب بوعشرين بكتابة نص الاستشارة الذي أورده محمد داوود في تاريخه. حيث قال بوعشرين "الحمد لله عقدنا الصلح مع العدو الكافر بمشقة عظيمة على عشرين مليون من الريال. وليس تحت يدنا بمراكش حتى الربع". قام الوزير أولا بعرض المشكل المالي الناتج عن قضية الصلح وعجز بيت المال عن تسديد الديون. لينتقل في رسالته لما هو أهم . يقول في هذا الصدد" فما تقولون في المال الواقع عليه الصلح. هل يفرض على الرعية حاضرها وباديها أم لا. فإن قلتم بفرضه فما يفعل مع القبائل التي كلها أو جلها متعاص عن أداء ما هو أهون من هذا العدد. فإن قلتم بقتالهم قلنا لا بد من إعمال حركات...موقوف على ما يعطي للجيش ...ولا مال موجود...فإن قلتم بعدم الإقدام على قتالهم فهل يرتكب للقبض منهم وهو أولى من ذلك...من جعل شيء يعطى على ما يوتى به من سلع وغيرها للمدن...فإن قلتم بعدم فرضه قلنا لا نجد ما نعطيه للكافر وينحل حينئذ نظام الصلح...فإن قلتم لا بد من التحقق بفراغ بيت المال...قلنا أمناؤكم ينبؤنكم بأمره...فإن قلتم لا تقبض الإعانة إلا بعد قبض ما بذمم التجار قلت غاية ما عندهم نحو السبعمائة ألف مثقال"
يستشف من مضمون الرسالة الاستشارية أن المخزن كان ينتظر من الرعية مقاومة قويه للضريبة الجديدة: فقد كان بوعشرين ذكيا في أسلوب تقديم الرسالة حيث وضع كل الاحتمالات التي يمكن أن يسأل عنها العلماء وأجاب بما رآه مناسبا لصالح المخزن. كما اقترح الحل الذي رآه ملائما وهو فرض مكوس(ضرائب ) على السلع التي تدخل من أبواب المدن.
تباينت أجوبة العلماء في النازلة فمنهم من فـضل التملص من الجـواب و" كانوا يختفون إلى أن يجيب غيرهم. وبعضهم يترك بلده إلى غيره من المدن والقبائل فرارا من الجواب" وأهون منهم من كان يمضي جوابه إلى جواب عالم آخر كمحمد الفيلالي الذي أجاب في رسالة قال فيها" الحمد لله ...أما بعد..في جواب سؤال مولانا...ما أجاب به الفقيه العلامة أبو العباس سيدي أحمد المرنيسي..موافقا على ما تضمنته أجوبة حماة راية الإسلام" فالفيلالي لم يكلف نفسه حتى البحث في النصوص الشرعية عن وسيلة لتبرير أقواله والخروج برأي حاسم يقنع به نفسه على الأقل. وكان ضمن العلماء المستشارين من لا تأخذهم لومة لائم في إبداء رأيهم صراحة. وكان منهم الفقيه أحمد العراقي الذي بنى رفضه على أن الصلح بالمال الكثير الذي ليس ببيت المال إلا ربعه مع كون العدو طالبا للصلح غير مطلوب. ولا يجوز وينقص لما فيه من تهوين وإذهاب قوته" . أوضح العراقي عواقب الصلح بالمال بأن العدو سيجمع المال ويتقوى بها، وفي أية لحظة ينقض الصلح ليهجم على المغرب. وانتقد الجند المغربي وعدم تنظيمه.
علق على جواب العراقي. العالم البشير أفيلال التطواني بقوله" إفتاء العراقي كان وجيها لو كانت القوتين متساويتين. ولم يكن هذا ليخفى على العراقي. لكنه رغم ذلك أفتى بما رآه ملائما. وأهم من هذا أنه أولى برأيه دون تحيز للمخزن وطمع في أعطياته أو خوف منه". ولم يجب المخزن بقبول فرض المعونة ‘لا العلماء الذين وصفهم علد الله العروي بأنهم" الرجال المعروفون دائما بطاعتهم للسلطة"، ومنهم المهدي بن الطالب بن سودة وعمر بن سودة ومحمد عبد الواحد الدويري ومحمد بن محمد حمادي المكناسي ومحمد الفيلالي. لقد أورد أجوبتهم محمد داود في تاريخه بعرض نماذج منها كجواب عمر بن سودة الذي قال " الحمد لله فإذا نفذ بيت المال..وقصر عن القيام بمصالح المسلمين نفعا...فلا بأس بأخذ مولانا من عامة المسلمين زيادة معونة على وجه لا إجحاف فيه". لقد أجمعت كل الإجابات على أن فراغ بيت المال من الضرورات التي تبيح المحظورات. وبذلك يجوز للمخزن جمع المال من الرعية. فمعظم الإجابات أوردت مثل هذه العبارات " لاشك عندنا في جوازه" "وحكمه" أو " فلا بأس بأخذ". فهذه الأجوبة تدل على هشاشة إيمان هؤلاء بسداد ما أفتوا به. وما يبرر قولنا أن كل أجوبتهم جاء " بالموافقة المشروطة"، وارتبطت الشروط بشيئين أساسيين. أولهما كيفية القبض، ثانيهما شخصية القابض. و اشترطوا في القبض" ثم ليكن القبض من وجه رفق" و" على وجه لا إجحاف فيه" وأكدوا على ضرورة "جباية الأموال بالرفق".واشترطوا في الجابي أن يكون من أهل الثقة والأمانة والتحري في تقديم من يتولى قبض ذلك" وأن لا يوجد لقبضها إلا من تحققت أمانته". فرغم اختلاف العبارات فإن جل الشروط أكدت على الرفق في القبض وعلى حسن سلوك القابض، فضل الدويري والمكناسي المعونة عن المكس. وبنوا حججهم على أن المغارم إذا كانت لصالح المسلمين فليست من المكس في شيء .
والمعونة طبعا هي لصالح المسلمين لعجزهم عن مواجهة الأجانب، وبذلك وجدوا وسيلة تخرجهم من ورطة اعتبار المعونة مكسا ونص الشرع واضح في تحريمها حيث أن الرسول ( ص) قال لا يدخل الجنة صاحب مكس(أورده محمد داوود)فمن الأجوبة السالفة الذكر استمد السلطان الشرعية لجمع المعونة من الرعية. وكتب لعمال المدن يطلب منهم المعونة. ومما جاء في خطاب لأهل سلا.."لأن المراد أن يعطي كل واحد على قدر حاله"،كما طلب السلطان الأموال من مدن أخرى. واعتمادا على هذه الأموال استطاع المخزن دفع مال الغرامة. وساعد السلطان على الوصول إلى هذا المبتغى العلماء الذين لم يدخروا جهدا لتبرير شرعية هذه الضريبة ودحض كونها مكسا.