لم يحظ روائي أو أديب ياباني ولا حتى صاحبا نوبل "كاواباتا" و"كينزوبور" في ذروة مجدهما مثلما حظي به هاروكي موراكامي من شهرة عالمية جعلته، إضافة إلى شعبيته الأدبية، من أهم المرشحين لجائزة نوبل فهذا الجمع بين الشعبية والنخبوية هو ما جعله يحصل كل تلك الشهرة الفائقة فبالكاد تحضر رواية له في سوق النشر حتى تنفد منها رفوف المكتبات وتتسابق إلى تقييمها أقلام النقاد.
ولعل السر عند مبدع "كافكا على الشاطئ" يكمن في المعادلة السحرية التي تتسم بها رواياته القائمة على خلطة مكونة من الوجودية التشاؤمية والفنتازيا، ممزوجة بالأفكار النقدية للمجتمع الرأسمالي الفصامي، وآليات استلابه لإرادة الإنسان بفرضه نظام العقل الأداتي النفعي الذي يشيئ كل ما هو إنساني بتحويله إلى سلعة وهذا ما ركز عليه في روايته "رقص رقص رقص"، فيجعل بطله يعيش اغترابه العقيم في حياة يعجز فيها عن الخروج على النمطية التي فرضتها معادلات السوق والربح الفاحش الناتج عن تراكم القيمة الفائضة من جهود العاملين في شركاته.
ويبدو البطل المغترب عن نفسه وعن مجتمعه شبيها بغريب كامو حيث يعيش حياته بلا معنى يبحث فيها عن شيء حقيقي لم تصطنعه سلطة المال،عن شيء يتفاعل معه بشكل إنساني، عن الحب الذي لا يمكن أن تقدمه كل إغواءات نساء العالم إنما تقدمه امرأة واحدة،عن الصداقة والتعاطف، فيهاجم في بحثه هذا دورة رأس المال التي لا تفيد إلا أصحابها الذين لا هم لهم إلا المزيد من الربح لتزيد من رفاهيتهم.
فالبطل هنا مشبع بالأفكار النقدية التي تجعله يسخر من المجتمع الرأسمالي المتقدم الذي يعظم الحاجات النافلة، ويجعلها مهمة للإنسان ليدخلها ضمن سياق الربح والخسارة وبشكل دعائي يفتعل التحضر والإنسانية.
وتظهر هنا شخصية البطل مثل غيرها من شخصيات رواياته الأخرى ذهانية، تنفصل عن الواقع المستلب لتهذي بأفكار وعواطف ومواقف تساعدها على تحمل التشاؤم واليأس من الحياة الاستهلاكية، فالرواية تبدأ بحلم يتكرر عن بكاء في فندق قديم وعن فتاة مرت في حياة البطل منذ زمن.
يعود البطل بسبب إلحاح الحلم إلى ذلك الفندق الذي أصبح فخما بخمسة نجوم لتبدأ الرواية بمسارات مركزها البطل المتحدث بضمير الأنا الذي يجعل الإيهام بالأحداث أقوى، ومن خلال الأشخاص الذين تعرف عليهم هناك، والأحداث التي ولدها تعرفه على تلك الشخصيات، والتي استعادت بدورها شخصيات من الماضي يُنشئ حبكته التي تزيدها تشويقا العناصر البوليسية المتمثلة بجرائم غامضة والطفرات الباراسكيولوجية لبعض الشخصيات التي تتمتع بقدرات نفسية خارقة، كالتنبؤ والتخاطر، وفي خضم تلك الأحداث يظهر الحب والتعاطف والثقة بالآخر مفقودين عند الشخصيات الأخرى التي ستجدها عند البطل المثقف الواعي لما يجري حوله من تدمير للإنسانية بسلطة المال.
لم ينه كاتب "الغابة النرويجية" روايته هذه نهاية كاملة، فالحب الذي يظهر أنه أهم ما يمكن أن يجده الإنسان قد وجده البطل من وراء ملاحقته لخلفيات هذا الحلم، وما تتالى فيها من أحداث إلا إن باقي الشخصيات التي لم تمت أو تنتحر بقيت نهايتها معلقة، وخصوصا صديقته المراهقة يوكي التي تعيش حياة ضياع بين أبوين غنيين يتآكلهما العمل والترفيه.
وربما هي هنا رمز لجيل المراهقين في المجتمع الياباني والرأسمالي بشكل عام، والذي تعيش فيه العائلة والإنسان توهانا اجتماعيا يحاول فيه الإعلام التابع للرأسمال المتوحش الممسك بزمام الوعي واللاوعي، هناك تلميع الحياة الاجتماعية والإنسانية المريضة وهو ما كشفه البطل في إحدى حوارته مع الفتاة المراهقة برؤية تشاؤمية لتلك الحياة وهي تنقضي.
يقول بطل رواية موراكامي:" لسوء الحظ فإن الساعة تدق والساعات تمر ومع هذه الدقات الماضي يتزايد والمستقبل يتراجع.. الإمكانيات تتضاءل وأسباب الندم تتصاعد".
وبشكل عام ومثل كل رواياته تمتلئ "رقص رقص رقص" بتلك النظرة اليائسة لحياة الإنسان تحت سلطة الجشع التي يتصف بها بشكل عام متبلدو الفكر والعواطف أو مدعوها الذين لا يفتؤون يطلبون المزيد من المال، ليس لترسيخ استقرار حياتهم المعيشية، بل لزيادة ترفهم وزيادة سطوتهم وسلطتهم التي كما نراها في الرواية سلطة تقود الإنسانية إلى نهايتها، فحتى المشاعر أصبحت قابلة للبيع والشراء وذلك عندما يطلب والدا يوكي من البطل الطيب المثقف أن يصبح صديقا ليوكي التي ارتاحت له، عارضين عليه السعر الذي يريد فهذا ما يمكن أن نصل إليه في زمن الرأسمالية المتقدمة كما يستهزئ موراكامي على لسان بطله.
يذكر أن الرواية صادرة عن المركز الثقافي العربي في بيروت بترجمة أنور الشامي.
"سانا"