بديع صنيج
يفترض الكاتب جاك رانسيير في كتابه سياسة الأدب وجود صلة جوهرية بين السياسة بوصفها شكلاً خاصة من الممارسة الجماعية والأدب بوصفه ممارسة محددة لفن الكتابة مؤكداً على أن المصطلح الذي يدور حوله العنوان لا يتعلق بسياسة الكتاب أو التزاماتهم الشخصية في الصراعات السياسية والاجتماعية لعصرهم وأيضاً لا علاقة له بطريقة تصويرهم للبنى الاجتماعية أو الحركات السياسية في كتبهم.
وينتقل المؤلف في كتابه الصادر عن وزارة الثقافة السورية بترجمة سهيل أبو فخر إلى "الالتباس الأدبي" على أنه سمة العصر نتيجة الدلالات المختلفة والفجوة الواضحة بين اللغة ومجسداتها وما ينجم عنها من سوء التقدير نتيجة استعارات الكتابة ولاسيما أن الأدب يقوم بقراءة الدلالات المكتوبة على الأجسام والأشياء في عالمنا المشترك ومن جهة أخرى يحررها من تلك الدلالات التي أرادوا تحميلها التبعة.
كما يتساءل رانسيير عن أسباب مقتل إيما بوفاري مع أنها انتحرت في الرواية التي كتبها الفرنسي جوستاف فلوبير بسبب الديون التي أثقلت كاهلها بعد مغامراتها الخارجة عن إطار الحياة الزوجية لكن سؤال الفيلسوف الفرنسي فيه تسليط ضوء على الضرورة الخيالية لفلوبير التي الهمته أن يجعل تلك الشخصية تخلط بين حياتها الواقعية والأدب.
ويقول صاحب كتاب المتفرج المتحرر في فصل تولستوي والأدب والتاريخ.. إن فلسفة التاريخ ليست جسماً غريباً مضافاً إلى مسيرة الخيال وفن الأدب فالأدب هو الذي يتحدث بنفسه عندما يعارض ما بين تاريخ القادة الكبار وتاريخ الجموع فوجهة النظر الخاصة بالأدب هي التي تضعها الرواية مقابل وجهة نظر المؤرخين الذين يكتبون المعركة من جديد ما إن تنتهي في حين أن للأدب مستندات أخرى "كما يبين تولستوي" للذين عاشوا أحد تلك الأحداث الصغرى التي يشكل تداخلها غير المتوقع ما يسمى بالمعركة.
أما المسألة الشعرية فتتماثل في سياسة الأدب مع المسألة السياسية عبر تناول الكلمة كصيغة مكونة للمجتمع وعلى اعتبار الكتابة هي الحركة المادية غير العاقلة التي تتمتع بالمعنى والتي تحول الكلمات إلى أنماط وجود مسجلة بذلك شيفرة المجتمع ومحددة أبعاد وتوجهات الفضاء المشترك والعلاقة بين نظام العمل ونظام الفكر ونظام المبادلات الاقتصادية والتكامل الجمالي بينهما.
ويؤيد رانسيير برتولد بريخت في فصل "المعرفة السعيدة لدى بريخت" في تأكيده على الحاجات المادية التي لا أخلاق بدونها مع ضرورة الفصل بين هذين النوعين من الحاجات وهو ما يؤدي في الوقت ذاته إلى التضاد بين الأخلاق والفائدة السياسية وإلى تزعزع الصلة ما بين الأخلاقي والاقتصادي ما يضع ممثل المسرح أمام نوع آخر من إنتاج العلاقات بغية إثارة مساهمة الجمهور في التبادل المنتج أكثر من وضعه في موقع الفعل المناضل عبر إثارة الوعي.
كما يعالج الفيلسوف الفرنسي ما أسماه العيب الفرنسي في الأدب عبر علاقته مع الأديب الأرجنتيني بورخيس الذي يرى أن الواقعية الفرنسية هي التضحية بكمال الحبكة لصالح غزارة التفاصيل مانحاً ميزة للأدب الأرجنتيني في أنه على النقيض من الفوضى الأدبية الفرنسية يسعى وراء تقليد أدب كوني يقوم على أولوية الإبداع والتنظيم دون اهتمام بعودة النظام الشعري الجميل للأدب الفرنسي وبلا أي اهتمام بوضع المنطق القديم لصراع الإرادات والمشاعر مقابل الفوضى الديمقراطية للحياة اليومية التافهة مؤكداً بشكل أساسي على القوة الفريدة للحكاية ذاتها دون أي شيء آخر.
ويجري رانسيير تقاطعاته بين الأدب والتحليل النفسي عند فرويد وبين الفلسلفة والشعر عند مالارميه وباديو مؤكداً أن الأدب هو معرفة المجتمع وخلق ميثيولوجيا جديدة بصورة لا تنفصم مطلقاً وفق نظام دلالة جديد يجرد إرادة المعنى والكلام الفاعل من مزاياهما محدداً مسافة فاصلة أيضاً عن المشهد السياسي كما يقوم أيضاً على فك رموز الشهادات التي يقدمها المجتمع نفسه ومن أجل نبش الشهادات التي يطمرها في أعماقه المظلمة بلا قصد ولا دراية منه بقصد السفر إلى الأغوار التي تحوي الحقيقة الخبيئة.
يذكر أن هذا الكتاب الذي جاء في 240 صفحة من القطع المتوسط عبارة عن توليفة قام بها رانسيير لمجموعة نصوص من الدراسات المتفرقة نشرها في مجلات أو ألقاها في ندوات ولقاءات علمية خاصة في الفترة الواقعة بين عامي 1979 و2006 مدخلاً عليها مجموعة من التعديلات لتصب في السياق الأدبي الذي أراده.
"سانا"