فراس حج محمد
يحب الإنسان العيش حرا، لا رقيب عليه سوى ذاته وأفكاره التي يقتنع بها، ويحرص أن تكون سلوكياته وتصرفاته بناء عليها، ولهذا فقد خلق الله الإنسان حرا في اختيار أفعاله، ليكون جديرا بعقابه أو ثوابه، فلا يحق لأحد أن يراقبك مهما كان نوع هذا الرقيب سياسيا أو اجتماعيا.
وقد ازدهرت أفعال الرقيب في الظروف غير العادية سياسيا واجتماعية، فوجدت الدوائر الأمنية لتكون مهمتها وضع الناس تحت المجهر في أقوالها وكتابتها، فترى أحدهم قد تضخم ملفه لكثرة ما نُقل عنه من أقوال وما رصد له من أفعال، ولم يكتف الرقيب أحيانا بالنقل الحرفي وأمانته، بل يلجأ إلى سيئ التفسير، فيدخل إلى عقل الكاتب والمتحدث، ويؤول الكلام، فيلوي أعناق الحديث، ليظهر الناس وكأنهم ضد السياسة العامة المتبعة، وضد الأعراف الاجتماعية المستقرة، وبهذا يكتسب الرقيب خطورة أخرى، غير النقل، تتمثل في تحميل الكلام ما لا يحتمل.
وقد عانى الكتاب والمثقفون قديما وحديثا وفي دول شتى، ديكتاتورية وديمقراطية من ألم الرقيب وسوء تفسيراته، فأباح لمقصه أن يبتر من النصوص ما لا يعجبه أو يخالف رؤيته العوجاء، وكأنه الناقد الفذ، والمانح الكلمات معانيها، فكانت الرقابة حاضرة وسيفا مسلطا على ما ينشر من كتب أو مقالات في الصحف والمجلات.
وامتدت أيدي الرقيب الأمني في الدول المحتلة والمستعمرة إلى كتب المناهج، فحرّم المحتلون على طلاب المدارس أن يتحدثوا عن ثقافتهم الوطنية ورموزهم السياسية والثقافية، وأخذوا يراقبون مكتبات المدارس في جولات تفتيشية مفاجئة، كما كان يحدث في فلسطين عندما كانت دولة الاحتلال الإسرائيلي تقص من المناهج وتحذف ما يذكي الروح الجهادية والانتماء الوطني، وكان مراقب التعليم يصدر تعليماته عبر الكتب الرسمية بضرورة عدم اقتناء مجموعة من الكتب أو طبعات خاصة منها، ويعطي الأوامر بضرورة إتلاف تلك الكتب.
وحديثا يحاول أصحاب النفوذ السياسي عالميا ومحليا جعل المواقع الإلكترونية تحت المراقبة، لحذف ما لا يعجب أو يطرب هؤلاء المتنفذين، وكأنهم يريدون البشر مداحين للخواء والغباء والجهل، وقد تعرض كثير من المدونين العرب إلى هجمات الحذف وحجب مواقعهم ومدوناتهم، بدعوى أنها تزعج السلطات المختصة، والأمثلة أكثر مما تحصى، ووصل الأمر إلى حد اعتقال البعض اعتقالا يعاقب على حرية الكلمة والفكر.
وتبعا لذلك وخوفا من السلطتين السياسية والاجتماعية، فقد قام نفر من الكتاب السياسيين من اختراع أسماء مستعارة، يوقعون بها مقالاتهم وقصائدهم، وقد أبدعت الحركات التحررية في ذلك أسماء ذات مدلولات عميقة في فلسطين وغيرها، فكان للقادة أسماء مستعارة عرفوا بها، أطلق عليها أسماء حركية، وأذكر في هذا المجال الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد، وهو الاسم الذي عرف به، وأما اسمه الحقيقي فهو خالد محمد صالح أحمد، وقد تحدث في بعض حواراته عن سبب هذا الاسم خالد أبو خالد، ولا يغيب عن ذهن القارئ الكريم عائشة عبد الرحمن التي كانت توقع مقالاتها باسم بنت الشاطئ كذلك، خوفا من الرقابة الاجتماعية.
ولم يقف الحد عند بتر تلك النصوص وتشويهها، بل امتدت يد الأجهزة الأمنية إلى شخص الكاتب والناقد، فزجت به في السجن وعذبته، وقد حفلت السجلات العربية الأمنية كثيرا من الحالات، فتعرض كثير من الكتاب إلى السجن والنفي والتضييق والفصل من الوظائف الحكومية، وإلى التعذيب المفضي إلى الموت، وهذا ما سمعنا به وقرأناه عن كثير منهم، من أمثال رسام الكاريكاتير السوري علي فرزات؛ فقد قامت الأجهزة الأمنية السورية، أو ما عرف بالشبيحة بخطفه وتعذيبه، ودق أصابع يديه التي يرسم بها ما ظنت السلطة الحاكمة أنه يزعجها أو يحرجها، وقد حدث قبل ذلك أن قامت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بالتصفية الجسدية للعديد من الكتاب الفلسطينيين، فكان ناجي العلي وراشد حسين ضحايا تلك السياسة النابعة من تصرف الغول الصهيوني الذي أبدع وشنع في سبل المراقبة.
وأما اجتماعيا، فحدث ولا حرج؛ فقد تحولت مجتمعاتنا إلى مجموعة من الرقباء الذين تبرعوا لشغل هذه المهمة بدرجة من الإتقان فاقت وبزت عمل الرقيب السياسي والأمني، فتحول الكل رقيبا على الكل، وحُمّل السلوك الاجتماعي الفردي أكثر مما يحتمل، وقد اشترك الرقيب السياسي مع الاجتماعي في مهمة التفسير والتأويل لتلك التصرفات والأقوال، فأخذ الجميع يحصون على الناس أنفاسهم وأقوالهم وتحركاتهم ولقاءاتهم، وظن الناس ببعضهم الظنون، فاشتعلت الفتنة، وعمت البغضاء، وقلت الثقة بين الناس وانعدم الأمان.
ورصد الشاعر العربي صورا لذلك متعددة، وأبدع في ذلك حديثا الشاعر العراقي المنفي أحمد مطر في لافتاته في تصوير عمل الرقيب، وفي فلسطين أبدع الشاعر معين بسيسو في الحديث عن الرقيب الأمني العربي والإسرائيلي.
وقديما لم يكن للرقيب السياسي حضور طاغ كمثل أيامنا هذه، وإن كان موجودا، ولكنه ليس بهذه الكثافة المقيتة، وبرزت مهمة الرقيب الاجتماعي بروزا لافتا للنظر، وخاصة عند شعراء الغزل العذري، فقد امتلأت قصائدهم بالحديث عن الواشي والرقيب، ما حدا بالشاعر ابن المعتز أن يلخص تلك المعاناة بهذين البيتين عن عمق المأساة التي يعاني منها في علاقته بمن يحب، وكأنه يتحدث عن كل تجربة في الوقت ذاته:
"أَرُدُّ الطَرفَ مِن حَذَري عَلَيهِ وَأَمنَحُهُ التَجَنُّبَ وَالصُدودا
وَأَرصُـدُ غَفلَةَ الرَقَباءِ عَنهُ لِتَسرِقَ مُقلَتي نَظَراً جَديدا".
ومع كل ذلك يبقى الرقيب شخصا مذموما يتمتع بكل صفات البلادة والجمود، فلا مجال لحصار الأفكار والمشاعر، مهما حاولت السلطات السياسية والاجتماعية، ويبقى التفوق للإبداع والحرية والمشاعر الإنسانية التي تضرب بعين الرقيب عرض الحائط، ولا يهمها من قريب أو بعيد تسجيلاته وتأويلاته التي سينقعها بدموعه، ليتجرعها غصصا من الندم عندما تتحقق آمال الناس بالحرية والعدالة والعيش طبيعيا بكل ما تحمل الكلمة من معنى الإنسانية الخالصة من عيب التحكم والسيطرة.
,