إدريس الكنبوري
الدين المدني والدين السياسي
انطلاقا من هذه القاعدة ينتهي المؤلف إلى أن الدين والسياسة ليسا عالمين منفصلين، بل هما طريقان متقابلان للفاعلين الإنسانية، وهذا يتضح حتى في اللسان العربي، إذ تشير عبارة الدين إلى الشرعة والمنهاج كما في القرآن، بينما تشير السياسة إلى طريقة التدبير كما عند فلاسفة المسلمين كابن خلدون، ويعني هذا أن الدين هو الذي يمد السياسة بمنهج التدبير، وأن السياسة لا بد لها من دين، فإما أن يكون دينا من خارجها كالدين السماوي المتعارف عليه، أو يكون من داخلها، لكي تصبح السياسة هي نفسها دينا لا تعترف بدين آخر سوى ما تسطره هي لنفسها، وفي هذه الحالة تكون العلمانية ـ التي تقول بعدم إدخال الدين في السياسة ـ دينا يقدس كيانا سياسيا معينا، لكنه إما أن يكون دينا مدنيا أو دينا سياسيا.
يربط طه عبد الرحمان الدين المدني بالدولة الديمقراطية، والدين السياسي بالدولة الشمولية(يسميها المحيطة). فدعوى أن السياسة خالية من التعبد، أو أن العلمانية منافية للدين وليست دينا جديدا، هي دعوى مردودة، لذلك كان من الطبيعي أن تنتج العلمانية الدينين المدني والسياسي بوصفهما السند الوجداني الذي من المفترض أن يرتبط بأي ممارسة دينية، بسبب الحاجة الطبيعة لدى الإنسان إلى وجود مثل هذا السند. بيد أن عبد الرحمان يرى أن الفرق الوحيد بين الدينين هو أن المواطنين في النظام الديمقراطية يتعبدون لمؤسسة الدولة، بينما يتعبدون في النظام المحيط لرئيس الدولة، وهذا النمط الثاني هو "الأشد والأفحش"بالنسبة للمؤلف.
غير أن المؤلف، الذي ينطلق من نظرية في الوجود الإنسان ـ كما تحدث عنها في الكتاب ـ مرتكزة على أن الدين هو الأصل بالنظر إلى أصالة الفطرة، لا يرى منطقة وسطى بين حضور الدين وغيابه في الممارسة السياسية للدولة الحديثة، فإما أن الدين حاضر فيها بوجهه الحقيقي (المنزل) وبالتالي فالإنسان يتعبد لله، وإما أنه حاضر بوجهه غير الحقيقي(الوضعي) وبالتالي فالإنسان يتعبد للطاغوت.
أين يتمثل حضور الدين في الدولة العلمانية الحديثة، بشقيه المدني والسياسي؟. يتوقف المؤلف هنا عند مثالين بارزين. يتعلق الأول بالنظام الأمريكي الذي يمثل الدين المدني، إذ يتم تصوير الشعب الأمريكي في المخيلة الجماعية الأمريكية كشعب شبيه بشعب إسرائيل، بحيث يتم معاناة الأمريكية محنة الخروج إلى أرض الميعاد (أمريكا) فرارا من الاضطهاد في أوروبا بمعاناة الشعب اليهودي الذي عانى هو أيضا المحنة في خروجه إلى فلسطين فارا من الاستعباد في مصر، وكما اختار الله شعب إسرائيل للقيام بدور تاريخي تصلح به الإنسانية كلها وأخذ منه الميثاق، فإن الشعب الأمريكي مرشح لنفس الدور، إذ تم تشبيه جورج واشنطن بالنبي عيسى الذي بعث لليهود، ودفع حياته فداء للعباد، مثلما دفع جورج واشنطن حياته فداء للعبيد السود، ويضاف إلى واشنطن في قائمة شهداء الدين المدني جون كنيدي ومارتن لوثر كينغ. ويرى المؤلف أن الدين المدني في أمريكا، مثله مثل اليهودية والمسيحية، له هو الآخر كتبه المقدسة مثل"إعلان الاستقلال" و"الدستور" وتشيد له النصب والمعابد والرموز مثل قبر الجندي المجهول، كما له طقوس وأعياد جماعية مثل يوم الاستقلال ويوم الذكرى ويوم الشكر.
أما الدين السياسي فيتمثل في الأنظمة الشمولية غير الديمقراطية مثل النازية والفاشية والبولشفية. فقد وضع هتلر مثلا كتابه"كفاحي" ككتاب مقدس للألمان، وسن مجموعة من الطقوس المستلهمة من الشعائر الدينية المسيحية والتراث الوثني الجرماني مثل الاحتفال بالأبطال والاحتفال بميلاد القائد وبمؤتمر الحزب وبيوم الانقلاب، وغيرها، كما تم وضع قصص أسطورية لرفع الشعور القومي لدى الألمان مثل أسطورة الأصل الآري وأسطورة الاشتراكية الألمانية.
العلمانية والثيوقراطية
إنهما نموذجان للدولة العلمانية الحديثة الخالية من"الدين التاريخي" بتعبير المؤلف، أو الدين المنزل، يظهران أن دعوى الحيادية في تعامل الدولة العلمانية مع الدين دعوى غير سليمة كما سبق القول، ذلك أن الدولة العلمانية لها هي الأخرى"خيارها العقدي"، وهذا الخيار هو ما يجعلها تفقد دور الحكم بين الأديان، بل تفرض عقائدها على المواطنين. ويرى المؤلف أن هناك نوعين من العلمانية، العلمانية الغافلة التي تدفع الإنسان إلى الاستسلام لها بشكل كلي، أي أن المواطن يأتي أعمالا علمانية في الظاهر مقتنعا بها في الباطن، والعلمانية اليقظة التي هي إتيان أعمال علمانية في الظاهر مع ضعف أو غياب الاعتقاد بها في الباطن. وقد يتبادر إلى الذهن هنا ذلك التمييز الشهير بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة لدى المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري، بيد أن المسيري يميز بين النوعين بناء على النظامين الاجتماعي والسياسي، بينما يميز عبد الرحمان بين النوعين بناء على الموقف الأخلاقي للفرد.
انطلاقا من هذا الموقف يرى طه عبد الرحمان أن العلمانية ليست نمطا لتدبير النقاشات الدينية بين المواطنين، كما تفعل في تدبير النقاشات السياسية، لأنها هي نفسها دين، ولذلك لا بد أن تكون متحيزة إلى نفسها. وهو لا يرى فرقا بين الدولة العلمانية كما تم توصيفها والدولة الدينية أو الثيوقراطية، أي"الدولة التي يسود فيها رموز الدين ويحكمون باسم الدين". ويميز بين نوعين من الثيوقراطية، الثيوقراطية الحصينة، وهي التي"تلتزم بإقامة الدين في كليته مقاومة الفصل العلماني"، والثيوقراطية الهجينة، وهي التي"لا تلتزم بإقامة الدين في كليته ولا تقاوم الفصل العلماني"، ويرى بالتالي أن النوع الثاني لا يشرف على أية سجالات دينية تثمر حلولا مشتركة لا في مؤسسات عامة ولا في فضاءات المجتمع، غير أن الفرق بينهما هو أن الأولى"تصرف الشأن الديني صرفها للعنف المادي في التعامل مع المواطنين، بينما الثانية تستأثر به استئثارها بالقوة المادية في الفصل بين المواطنين، ولا يقل ضرر الاستئثار بالدين على الوجود الإنساني عن ضرر صرف الدين، بل قد يكون أسوأ منه درجات لا تحصى، ذلك أن الصرف العلماني يترك للمواطن حق الاجتهاد في دينه ولو إلى حد معلوم، في حين أن الاستئثار الثيوقراطي يحرم المواطن من هذا الحق كليا، فحقيقة الدين لا تنحصر، كما يتوهم بعض المستأثرين بالدين ، في إتيان بعض رسوم العبادات وإصدار بعض الفتاوى، وإنما في إحياء الروح التي بها حياة كل مدارك الإنسان، بدءا بالعقل وانتهاء بالحس، فما توسع العقل إلا من التشبع بمعاني الدين"(215ـ216).
كيف يرسم طه عبد الرحمان علاقة الدولة بالدين؟. سواء في الدولة العلمانية أو الدولة الثيوقراطية فإن هيمنة الدولة على الدين أمر ثابت، لأن كلتيهما تدبر الدين بالطريقة التي تراها، والمخرج بالنسبة للمؤلف هو ما يطلق عليه"مبدأ اختيار منهج التدبير" الذي يقرره المجتمع، لأن تدبير المجتمع للدين"تدبير طوعي"، بينما تدبير الدولة له"تدبير قهري"، وإذا كانت الدولة العلمانية تخل بمبدأ الحياد اتجاه الدين، فإن الدولة الثيوقراطية تفرض على الفاعل أو المواطن أن يتعبد على طريقتها"قدرا وشكلا".
,