هدى قزع
يركز هذا المقال على دراسة شعر مجموعة من شعراء النقد الاجتماعي في العصر العباسي الأول، خاصة الشعراء الذين ولدوا في البيئات الشعبية، وعاشوا بين الجماعات الفقيرة، وقاسوا في حياتهم الضيق والاضهاد والظلم، ذلك أنهم صوروا عيشتهم المريرة، وتمثلوا مشكلتهم ومشاكل غيرهم من المحتاجين المظلومين تمثلاً دقيقاً وصادقاً.
أما عن الأسباب التي دعت لظهور شعراء النقد الاجتماعي فهي مختلفة، إذ منها ما يرجع إلى الفساد الاقتصادي ، الذي يتضح في زيادة الخراج على العمال والفلاحين وجماهير الكادحين، والتجبر والتعسف في استيفائها، وإنفاق المبالغ الضخمة التي كانت تجبى منهم في سبل لا تنفع الجميع .
ومنها ما يعود إلى التباين الطبقي، فقد كان المجتمع العباسي موزعاً بين ثلاث طبقات، طبقة الخلفاء والوزراء والقادة، وهم الذين كان لهم السلطان المطلق في التحكم برقاب الناس، والتصرف في مصائرهم، والتهالك على تحقيق أكبر قسط ممكن من اللذة.والطبقة الوسطى،وأخيراً طبقة الفقراء المعدمين الذين كانوا يؤلفون أكثر الرعية، والذين كانوا يكدون للفوز بأقل القليل من ضرورات العيش.
ومنها ما يرد إلى الخلل السياسي إذ كانت الحال قلقة لهذا العصر، كما كان المجتمع يموج بالانتفاضات والثورات على الحكام المتسلطين المستبدين للإطاحة بهم ،وإقامة حكومة صالحة تعدل بين الأمة، وتنصف الفقير والمظلوم، ولا تفرق بين الناس، وتعمل لمصلحتهم، مما كان له أثر في تعطيل مرافق الحياة، وتعذر أسباب الرزق، وشيوع الفقر، وهذه المفاسد هي التي أفقرت جمهور العرب والمسلمين، وهي وإن اختلفت أنواعها، فقد كان مصدرها واحداً، وهو الحكم الجائر الظالم، كما كان انتشار الفقر، واتساع المفارقات بين الناس نتيجةً حتميةً لها.
وإذا أردنا أن نجمل موضوعات أشعار شعراء النقد الاجتماعي في العصر العباسي، على تعددها، نقول: إنهم أحصوا في قسم من شعرهم مظاهر فقرهم وبؤسهم، وافتقارهم إلى المأكل والملبس والمسكن.
وأول ما وقفوا عنده من صنوف حاجتهم وبؤسهم ،عريُ أبنائهم، وتغير ألوانهم، وصياحهم وبكاؤهم لطول ما جاعوا وحرموا، ولعل أحداً منهم لم يعبر عن هذه المعاني مثلما عبر عنها أبو فرعون الساسي،إذ يقول:
وَصِبيَةٍ مِثلِ صِغَارِ الذُرِّ سُودِ الوُجوهِ كَسَوادِ القِدرِ
جاءَ الشِتاءُ وَهُمُ بِشَرِّ بِغَيرِ قُمصٍ وَبِغَيرِ أُزرِ
إِذا بَكـَوا عَلَّلَتهُم بِالفَجرِ حَتّى إِذا لاحَ عَمودُ الفَجرِ
وَلاحَتِ الشَمسُ خَرَجْتُ أَسري عَنهُم وَحَلّوا بِأُصولِ الجُدرِ
إلى حين قوله:
فَاِرحَم عِيالي وَتَوَلَّ أجري فأنتَ أنت ثِقتي وذُخري
كنيتُ نفسي كنيةً في شعري أَنا أَبو الفَقرِ وَأُمِّ الفَقرِ
إن الصورة التي رسمها الشاعر لسوء حاله، وبؤس أطفاله، صورة مؤلمة، فليس أَمَرُّ وقعاً على نفس الإنسان من أن يعجز عن توفير الكساء والغذاء لأبنائه حين يعرون ويجوعون ويصرخون.
ومثل أبيات أبي فرعون الساسي، في قوة دلالتها على عسر أحوال الشعراء الفقراء أبيات لأبي الشمقمق يصف فيها حاجة أولاده إلى رغفان الخبز، وافتقارهم إلى أقل الطعام وأبخسه كالتمر والأرز لا في الأيام العادية، بل أيضاً في أيام الأعياد والمسرة، وهو يصف فيها تضييق الزمن عليهم وجفوة الناس لهم، ويرى أنه لو أبصر أبناؤه الخبز من مكان بعيد لساروا إليه بأقصى ما يستطيعون دون أن يبلغ سيرهم العَدْوَ السريع لطول ما جاعوا وأهزلوا، وهي تجري على هذا النحو:
ما جَمَعَ الناسُ لِدُنياهُم أَنفَعُ في البَيتِ مِنَ الخُبزِ
وَالخُبزُ بِاللَحمِ إِذا نِلتَهُ فَأَنتَ في أَمنٍ مِنَ التَّرْزِ
وَقَد دَنا الفِطرُ وَصِبيانُنا لَيسوا بِذي تَمرٍ وَلا أَرزِ
وَذاكَ أَنَّ الدَهرَ عاداهُم عَداوَةَ الشاهينِ لِلوزِ
فَلَو رَأَو خُبزاً عَلى شاهِقٍ لَأَسرَعوا لِلخُبزِ بِالجَمزِ
وَلَو أَطاقوا القَفزَ ما فاتَهُم وَكَيفَ لِلجائِعِ بَالقَفزِ
إضافة إلى هؤلاء الشعراء نجد شاعراً قد خصص كل ما وصل إلينا من شعره لوصف الخبز، وهو أبو المخفف عاذر بن شاكر، ولعل حاجته إلى رغفان الخبز، وحرمانه منها، هي التي جعلته يقدر قيمتها، ويضعها على رأس مطالبه إذ قال:
دَع عَنكَ رَسمَ الدِيارِ وَدَع صِفاتِ القِفارِ
وَعَدِّ عَن ذِكرِ قَومٍ قَد أَكثَروا في العُقارِ
وَدَع صِفاتِ الزَناني رِ في خُصورِ العَذاري
وَصِف رَغيفاً سَرِيّا حَكَتهُ شَمسُ النَهارِ
أَو صورَةُ البَدرِ لَمّا اِس تَتَمَّ في الاِستِدارِ
فَلَيسَ يَحسُنُ إِلّا في وَصفِهِ أَشعاري
فليس من همه ولا من هم أضرابه من المعدمين أن يلتفتوا إلى ما يلهو به غيرهم من الأثرياء والماجنين، ويستفرغوا فيه أشعارهم، كوصف المنازل المقفرة،أو التغزل بالمحبوبة الساحرة، أو التعلق بالغلمان والولدان، أو تصوير مجالس الخمر، وإنما همه أن يصف رغيف الخبز، مصدر قوته، وأساس حياته.
وينحو أبو الشمقمق في تصوير إقفار بيته من ألوان الطعام نحواً غريباً عجيباً، فيه السخرية المضحكة، وفيه المرارة والحسرة،إذ خلا بيته من القوت حتى لم يبتئس أولاده فحسب، بل حتى لم يقع ما كان به من الطير والحيوان على شيء، فإذا الفأر يرحل عنه، والذباب يطير منه، والهر لا يطيق الإقامة فيه، والكلب يمرض به، وإذا أوعية الزاد والماء فارغة مهجورة وإذا العنكبوت يبني بيته فيها، وذلك قوله:
وَلَقَد قُلتُ حينَ أَقفَرَ بَيتي مِن جِرابِ الدَقيقِ وَالفَخّارَه
فَأَرى الفَأرَ قَد تَجَنَّبن بَيتي عائِذاتٌ مِنهُ بِدارِ الإِمارَه
ودعا بالرَّحيل ذِباَّنُ بيتي بين مقصوصةٍ إلى طَياَّره
وَأَقامَ السِنَورُ في البَيتِ حَولاً ما يَرى في جَوانِبِ البَيتِ فارَه
يُنْغِضُ الرَأسَ مِنهُ مِن شِدَّةِ الجو ع وَعَيشٌ فيهِ أَذى وَمَرارَه
قُلتُ لَمّا رَأَيتُهُ ناكِسَ الرَأس كَئيبا في الجَوفِ مِنهُ حَرارَه
وَيْكَ صَبراً فَأَنتَ مِن خَيْرِ سنَورٍ رَأَتهُ عَيناي قطُّ بِحّارَه
قالَ لا صَبرَ لي وَكَيفَ مُقامي بِبُيوتِ قَفرٍ كَجَوفِ الحِمارَه
وَإِذا العَنكَبوتُ تَغَزَّلَ في دَنِّي وَحُبّي وَالكوزُ وَالقَرقارَه
وَأَصابَ الجُحامُ كَلبي فَأَضحى بَينَ كَلبٍ وَكَلبَةٍ عَيّارَه
وأغلب الظن أن أبا الشمقمق إنما يعبر بهذا الحوار الذي أداره بينه وبين هرة عن هول ما قاسى أطفاله الصغار من الاملاق، وما عانوا من آلام الجوع التي لم يعد لهم صبر عليها، ولا طاقة بها.
ووصفوا افتقارهم إلى المسكن الصالح، والمأوى المريح، والأثاث الجيد، وليس أدل على ذلك من قول أبي الشمقمق :
لَو قَد رَأَيتَ سَريري كُنتَ تَرحَمُني وَاللَهُ يَعلَمُ مالي فيهِ تَلبيسُ
وَاللَهُ يَعلَمُ ما لي فيهِ شابكةٌ إِلّا الحَصيرَةُ وَالأَطمارُ وَالديسُ
فسريره مجرد من المتاع والفراش إلا من الحصيرة، وإلا من ملاءة مقطعة مرقعة.
وعلى شاكلته قول أبي فرعون الساسي:
لَيسَ إِغلاقي لِبابي أَنَّ لي فيهِ ما أَخشى عَلَيهِ السَرَقا
لَيسَ لي فيهِ سِوى بارِيَةٍ وَبِهِ أُعْلِقَتْ لِبَداً خَلَقا
إِنَّما أُغلِقُهُ كَي لا يَرى سوءَ حالي مَن يَجوبُ الطُرُقا
مَنزِلٌ أَوطَنَهُ الفَقرُ فَلَو دَخَلَ السارِقُ فيهِ سُرِقا
فهو حريص على كرامته، حافظ لسره، ولذلك فإنه يوصد باب داره على نفسه وعلى أهله، ولا يريد أن يعلم أحد من الناس ما بداخله، لا خوفاً من أن يسطوا عليه اللصوص لنفاسته فهو لا يملك شيئاً ليسرق ،وإنما هو يخفي سريرته على الناس، فليس عند غير حصيرة، وغير حشية بالية بها صوف قد ذاب لكثرة ما قدم واستعمل.
وصوروا كذلك حاجتهم إلى الإبل والخيل لينتقلوا بها من مكان إلى مكان، فقد حفيت أرجلهم وتشققت ، وتقطعت نعالهم وفنيت، وفي ذلك يقول أبو الشمقمق:
أَتُراني أَرى مِنَ الدَهرِ يَوماً لي فيهِ مَطِيَّةٌ غَيرُ رِجلي
كُلَّما كُنتُ في جَميعٍ فَقالوا قَرِّبوا لِلرَحيلِ قَرَّبتُ نَعلي
حَيثُما كُنتُ لا أُ خَلِّفُ رَحْلاً مَن رَآني فَقَد رَآني وَرَحْلِي
وأودعوا قسماً آخر منه شكواهم المتصلة، ورجاءهم الدائم لكبار المسؤولين أن يرفعوا عنهم الظلم، ويكفلوا لهم ما يدفع الجوع عنهم ويصون شرفهم ويحميهم من التشرد والضياع .
وربما كانت مدحة أبي فرعون الساسي للحسن بن سهل وزير المأمون أوضح شاهد على هذا النوع من قصائدهم التي أطالوا فيها الشكوى إطالة استغرقت أكثر أبياتها إذ قال:
وَالناسُ اًجْناسٌ كَما قَد مُثِّلوا وَفيهُمُ الخَيرُ وَأَنتَ خَيرُهُم
حاشا أَميرَ المُؤمِنينَ إِنَّهُ خَليفَةُ اللَهِ وَأَنتَ صِهرُهُم
إِلَيكَ أَشكو صِبيَةً وَأُمَّهُم لا يَشبَعونَ وَأَبوهُم مِثلُهُم
لا يَعرِفونَ الخُبزَ إِلّا بِاِسمِهِ وَالتَمرُ هَيهاتَ فَلَيسَ عِندَهُم
وَما رَأَوا فاكِهَةً في سوقها وَلا رَأَوها وَهِيَ تَهوي نَحوَهُم
زُعْرُ الرُؤوسِ قَرَعَت هاماتُهُم مِنَ البَلا وَاْستَكَّ مِنهُم سَمعُهُم
وَجَحشُهُم قَد باتَ مَنْقورُ القَرى وَمِثلُ أَعوادِ الشُكاعى كَلبُهُم
فهو يستهل مدحته له بالإشادة بفضله وقدره، وكيف أنه يشرف الناس جميعاً ويعلو عليهم إلا الخليفة المأمون، فإنه لا يرتفع إلى منزلته.
ثم مضى يعرض عليه ما كان يحيا فيه هو وأولاده وزوجه من الجوع والحرمان الطويل، بحيث كانوا لا يجدون القوت، وكانوا يسمعون بالخبز ولا يرونه، وبالتمر ولا يمتلكونه، وبالفاكهة ولا يأكلونها ولا يعرفون شكلها وطعمها، فإذا هم تهزل أجسامهم وتقرع رؤوسهم، وتصم آذانهم، ويجرب جحشهم، ويضعف كلبهم.
ومثله أبو الشمقمق حينما قال لأحد الخلفاء العباسيين:
يا أَيُّها المَلِكُ الَّذي جَمَعَ الجَلالَةَ وَالوَقاره
إِنّي رَأَيتُكَ في المَنا م وَعَدَتني مِنكَ الزَياره
إِنَّ العِيالَ تَركتُهُم بِالعَصرِ خُبزُهُم العَصاره
وَشَرابُهُم بَولُ الحِمارِ مِزاجُهُ بَولُ الحماره
ضَجّوا فَقُلتُ تَصَبَّروا فَالنَجحُ يَقرنُ بِالصباره
حَتّى أَزورَ الهاشِمِيَّ أَخو الغَضارَةِ وَالنَضاره
فهو يزاوج في هذه المدحة بين التنويه بالممدوح، وبين التشكي له والتظلم إليه من فقره وجوعه.
غير أن أكثر رجال الدولة كانوا لا يعيرونهم أي اهتمام، ولا يلبون مطالبهم، بل كانوا ينهرونهم، مما حملهم على هجائهم هجاء فيه فحش وقذف وسب مبتغين به إذلالهم وإهانتهم وإرغامهم على مساعدتهم.
ومن ذلك قول أبي الشمقمق الذي يهجو فيه سعيد بن مسلم وقد أتاه وسأله فمنعه، والذي يبرز فيه حرصه على المال، وبخله به، مهما اغتنى ومهما جمع من الثروة، حتى أنه لو امتلك البحار كلها وقصده والده، وهو أقرب الناس إليه، وأحقهم واجباً عليه، وطلب منه قليلاً من المال ليتوضأ به لما أعطاه قطرة ماء واحدة ولنصحه أن يتيمم بالتراب:
هَيهاتَ تَضرِبُ في حَديدٍ بارِدٍ إِن كَنتَ تَطمَعُ في نَوالِ سَعيدِ
وَاللَه لَو مَلَكَ البَحارَ بِأَسرِها وَأَتاهُ سَلْمٌ في زَمانٍ مُدُودِ
يَبْغيهِ مِنها شَربَةً لِطَهُورِهِ لأبى وَقالَ تَيَمَّمنَ بَصَعيدِ
ومن هذا النوع من الهجاء أكثر ما بقي من شعر الحمدوني ،ومن لاذع هجائه لسعيد بن حميد قوله:
أَبا سَعيدٍ لَنا في شاتِكَ العِبَرُ جاءَت وَما إِن لَها بَولٌ وَلا بَعَرُ
وَكَيفَ تَبعَرُ شاةٌ عِندَكُم مَكَثَت طَعامُها الأَبيَضانِ الشَمسُ وَالقَمَرُ
لَو أَنَّها أَبصَرَت في نَومِها عَلَفاً غَنَّت لَهُ وَدُموعُ العَينِ تَنحَدِرُ
يا مانِعي لَذَّةَ الدُنيا بِأَجمَعِها إِنّي لَيَفتِنُني مِن وَجهِكَ النَظَرُ
وظاهر أنه لا يقصد إلى تصوير شاة سعيد طلباً للتجويد في التصوير، وإنما هو يصفها ويقف عند نحول جسمها، وجوعها الطويل حتى أنه لم يعد لها بول ولا بعر، وحتى أنها لتفرح بالطعام إذا رأته في المنام، وتكتفي برؤيته في الأحلام، ليخلص إلى توبيخ صاحبها الذي تصدق عليه بها، أشد التوبيخ، وليظهره أمام الناس على حقيقته التي يخفيها عنهم، ويدعي معها أنه يساعد المحتاجين، ويواسي البائسين.
و في بعض أشعارهم اصطنعوا الهجاء الفاحش الذي كانوا يقذفون فيه مهجوهم بأحط السباب وألذعه ،ومنه قول أبي الشمقمق الذي يهجو فيه داود بن بكر والي الأهواز وفارس، وقد ارتحل إليه واستجداه فلم يعطه شيئاً:
وَلَهُ لحيَةُ تَيسٍ وَلَهُ مِنقارُ نَسرِ
وَلَهُ نَكهَةُ لَيثٍ خالَطَت نَكهَةَ صَقرِ
فهو ينفي عنه التقى والورع، ويرميه بالبلادة والغباء على غير ما يدل عليه مظهره ولحيته الطويلة، ويصفه بالقذارة وخبث الرائحة.
ولم يقف عند هذا الحد في هجائه، فقد اتهم بعض مهجويه من العمال بالاستغلال والخيانة وبالزندقة والكفر، كأنما يريد تأليب الناس عليه، وإثارة الخلفاء ضده، لعزله وقتله، وتخليص الفقراء من طغيانه.
إذ قال في هجاء جميل بن محفوظ الأزدي عامل يحيى بن خالد البرمكي:
وَهَذا جَميلُ عَلى بَغلَةٍ وَقَد كانَ يَعدو عَلى رِجلِهِ
وَقَد زَعَموا أَنهُ كافِرٌ وَأَنَّ التَزَندُقَ مِن شَكلِهِ
كَأَنّي بِهِ قَد دَعاهُ الإِمامُ وَآذَنَ رَبُّكَ في قَتلِهِ
وشغلوا في قسم من شعرهم بالدعوة إلى الإصلاح دعوة شخصوا فيها عيوب المجتمع، ونقدوا القوانين الجائرة والمسؤولين الظالمين، ونادوا فيها برد الأمور إلى أوضاعها السليمة، وبتولية أهل الفضل شؤون الرعية، وطالبوا أيضاً بتوزيع الثروة توزيعاً عادلاً بين الناس وبتوفير جميع وسائل المعاش لكل إنسان توفيراً يسد حاجته ويتلاءم مع منزلته، بحيث لا يحتاج، ولا يأخذ أكثر ولا أقل مما يستحق.
ولعل أحداً من الشعراء الفقراء لم يعبر عن هذه الأماني والمطالب المشروعة مثلما عبر عنها أبو الشمقمق في قوله:
مُنايَ مِن دُنيايَ هاتي الَّتي تَسْلَحُ بِالرِزقِ عَلى غَيري
الجَرْدَقُ الحاضِرُ مَع بِضعَةٍ مِن ماعِز رَخْصٍ ومن طيْرِ
وَجَرَّةٌ تهدُرُ ملآنةٌ تَحكي قَراةَ القَسِّ في الدَّيْرِ
وَجُبَّةٌ دَكناءُ فَضفاضَةٌ وَطَيلَسانُ حَسنُ النَّيْرِ
وَبَغلَةٌ شَهباءُ طَيّارَةٌ تَطوي لِيَ البُلدان في السيرِ
وَبَدْرَة ٌمَملوءَةٌ عَسجَداً ما بِالَّذي أَذكُرُ مِن ضَيْرِ
وَمَنزِلٌ في خَيرِ ما جيرَةٍ قَد عُرِفوا بِالخَيرِ والمَيْرِ
وَصاحِبٌ يَلزَمُني دَهرُهُ مِثلَ لُزومِ الكيسِ لِلسَيْرِ
مُساعِدٌ يُعجِبُني فَهمُهُ مُرتَفِعُ الهمةِ في الخَيرِ
وهذه دعوة إلى المساواة غاية في الوضوح والدقة، فهو يطلب أن يتساوى مع غيره من المحظوظين لا في ضرورات المعاش وحسب، بل أيضاً في الملاهي، فهو يريد المنزل المريح والخبز الدائم، واللحم الطيب، واللبن الذي لا ينقطع، والثوب الجميل، والمركب الصالح، والمال الذي يستعين به على تكاليف الحياة، والجار الأمين، والصديق الكريم.
أما الملاهي فيود أن يكون له حظ منها، فهو يريد أن تكون له جارية حسناء، وأن تتوفر له الخمر المعتقة، لكي يروح عن نفسه همومها، ويطرد عنها آلامها.
ومن أوضح الأبيات التي نادوا فيها بالإصلاح والمساواة هذان البيتان للحمدوني اللذان تضرع فيهما إلى الله أن يسوي بين الناس، وأن يجزي كل إنسان بأفعاله، إذ يقول فيهما:
تَسامى الرِجالُ عَلى خَيلِهِم وَرِجلِيَ مِن بَينِهِم حافِيَة
فَإِن كُنتَ حامِلَنا رَبَّنا وَإِلّا فَأَرجِل بَني الزانِيَة
فقد تعب لطول ما سار على رجليه، بينما كان غيره من المتسلطين المترفين ينتقلون على ظهور الخيل والبغال، ويتخذونها زينة فضلاً عن إراحتها لهم من مشقة السير وعناء المشي على الأقدام، وهو لا يرى سبباً معقولاً يتميزون به عنه، ويفضلون عليه، ولذلك فإنه يتوجه إلى الله صادقاً أن يعدل بين الناس وينصفهم، وأن يتولى كلاً منهم بأعماله، فمن كان مؤمناً حقاً فقد وجب له أن يوسع عليه، وأن يسعده في حياته، ومن كان منافقاً فاسداً فقد استحق أن يضيق عليه، وأن يسلبه كل ما يتمتع به، وكل ما احتازه لنفسه واغتصبه لها على حساب غيره.
.