البترول والاستعباد الاجتماعي ، الى أين يفضي الدرب ؟
عبد الرحمن القاسمي
"لا يكفي أن تصف موج البحر وظهور السفن حين تريد أن تتكلم عن حياة البحر..لابد لك أن تفهم ما في القاع...قاع البحر المليئ بالغرائب والتيارات والوحوش...وقاع السفينة حيث يــجلس عبيد وملاحون الى المـجاديف أياما كاملة،يدفعــون بسواعدهم بضائع تحــملها السفن وثــرواث...ويترفون عرقا،وتتمزق أجســامهم بالسياط...أجـل ينبغي أن تعطيني الصورة كاملة،عندما تريد أن تقنعني بأمر من الأمور" ابن خـلدون. .
مما لاشك فيه أن انتفاضـة الفقر في الجزائر تجسد نوع من التناقض الكــبيرالذي لطالما ميز خــــطابات النخبة السياسية وخلفيتهم المبطنة غير المعلنة.فليس الادعاء بالاشتراكية يكفي لان يوسم النظام الذي يـــكثر مثل هذه الرنة "بالنظام الشعبي".فبين الاشتراكية كجوهر والاشتراكية كتسمية فوارق تظهرها الــممارسات التطبيقية وتقدم أدلة ملموسة على صحة هذا الايمان أو مجرد كونه شعارا لتغيير اصـلاحي وسطـــحي للقفز الى السلطة أو حتى في أحيان أخرى لتغليف اتجاه مضاد.وعلى ذلك فان ثمة فروقا أساسية بين الاشتــراكية والادعاء بالاشتراكية،وليست هذه الفروق ذات صيغ سطحية،انها جوهرية ترتبط بمعنى الأصـالة لـــلأولى والشكلـية بالنسبة للثانية.
ان انتفاضة الفقر أو ما أصطلح عليه البعض بهبة الجياع هي في الحقيقة صرخة للضمير الحي ضد كل أشكال الاستعباد الاجتماعي الممارس وبطرق ممنهجة من قبل نخبة لم تتردد في توجيه تهديدات مباشرة لسحق التحرك الشعبي،هددت فنفذت الوعيد فكانت النتائج كارثية أناس يترفون ليس عرقا وانما ذما.القول المرفق بالفعل يجد له أذان صاغية وبكل سهولة عندما يتعلق الأمر باسكات الأصوات الحرة،من غير هذا قد يحتاج القول لتحويله الى فعل تفكير مسبق والقيام بدراسات نظرية وأخرى تطبيقية في المجال ولربما لن تجد لها النور بفعل التـماطل واللف والدوران. ان استخدام الدخيرة الحية في مواجهة غير متكافئة تبين درجـة الافلاس وقيمة الفــرد.
وأود أن أشير الى نقطة أساسية وهي أن الاستعباد الاجتماعي يشكل ما هو أكثر من الفقر،مع العلم أن الفقر يمثل نذيرا مبكرا أو علامة أساسية للاستعباد الاجتماعي الذي هو نقيض المواطنة الحقة.واذا ما وضعنا في الحسبان أن البترول يعتبر من أهم الموارد والقوى الاقتصادية التي تتحكم في عملية التنمية والنهضة وتحقيق ما يسمى بالمواطنة الحقة،فلماذا يحصل العكس في الجزائر وغيرها من الدول البترولية النامية؟ ان هذا السؤال يدفعنا الى القول أن نمط التفكير الذي يسود عقلية النخبة بائد ومتجاوز لالشيء الا لانه لايأخد بالتجديات المستقبلية في امكانية نضوب الثروة،وبالتالي فان الاعتماد على اقتصاد الريع في تأسيس مقومات الدولة لايعدو أن يكون مقامرة في شكل مسلسل تقهقري رتيب.فأغلبية البلدان النامية المصدرة للبترول يمثل هذا المورد من صادراتها أكثر من %90 ؟؟؟ لنتصور،وهذا من باب الممكن،نضوب الذهب الأسود ماذا سيحدث؟ الكل يعي بجسامة وخطورة المحصلة.وقد يهين الخطب لو أن جميع فئات المجتمع استفادت من عائداته الكبيرة.
أعود الى السؤال الذي طرحته سابقا حول التناقض المميز للجزائر(لانها عرفت وتعرف انتفاضات) دولة البترول وعائداته الكبيرة ومع ذلك هناك استعباد اجتماعي؟ ما يفعله العسكر الجزائري والأثرياء العرب وغيرهم بثروة البترول من تبذير في بذخ أسطوري مبتذل لم يعد مقبولاً لا بمقاييس الأخلاق ولا الذوق الرفيع ولا أحكام الـدين المحمدي يقبل به.وشخصيا لن أركز على تبذير الأفراد، فالمتتبع لأخبارهم لاشك سيصاب بالدوار والصداع الذي قد يعجل برحيله من عجب العجاب. فأن يسوق شباب أبناء أصحاب الثرة سيارات فاخرة مطلية بالذهب في شوارع أوربا، أو أن يزور أحدهم متجرمجوهرات فلا يخرج منه إلا وقد صرف عشرين مليون أورو،أن يحدث كل ذلك من قبل أناس لم يمارسوا قط الإنتاج أو الإبداع أو العمل المضني فانه جنون بامــتياز.
وعلى مستوى الحكومات، تعبت الأقلام وجف حبرها وهي تكتب عن عبثية الصرف على عقد صفقات خيالية بمليارات الدولات لشراء الأسلحة، على إعلام يهبط بأذواق الناس ويكذب عليهم ويقودهم إلى التعبئة المغرضة ضد المغرب البلد الذي لم يتوان في دعم المقاومة الجزائرية عبر العقود،على قصور ويخوت وطائرات خاصة عز نظيرها في قصص ألف ليلة وليلة، على اقتصاد ريعي لا يبني تنمية إنتاجية مستدامة، وانما يلعب بالمال البترولي في ساحات القمار والمضاربات العقارية والأسهمية، ومن ثم تذرف الحكومات الدمع على تراجع خدماتها الأساسية الإنسانية في حقول الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية للأطفال والمسنين والعجزة والمهمشين والفقراء.ولدينا أمثلة في التاريخ الحديث لدول لم يقدر لحكامها توظيف خيرات بلادها التوظيف الرشيد المعقلن.
تجدر الاشارة الى أن دولة الأرجنتن كانت دولة السمن والعسل في القرن التاسع عشر، يذكر الكاتب الإنكليزي ألن بيتي في كتابه ' الاقتصاد الكاذب ' الذي يراجع تاريخ الاقتصاد في العالم، بأن الاقتصاد الأرجنتيني كان مشابها إلى حد كبير وواعدا بنفس المستوى للاقتصاد الامريكي. لقد كان كلاهما بلدا زراعيا وغنيا. لكن مع مرور الوقت استعمل الأمريكيون فائض ثروتهم الزراعية الهائلة لبناء اقتصاد صناعي من خلال استيرادهم للفكر الصناعي الأوروبي. أما الأرجنتين فإنها استعملت فوائض ثروتها الزراعية الكبيرة لاستيراد بضائع البذخ والرفاهية من أوروبا ولصرف جزء كبير من تلك الثروة على حياة البذخ والابتذال التي عاشتها الأقلية الأرجنتينية.ونتيجة لذلك الفرق الهائل في الفهم والفعل بين البلدين انتهت أمريكا بالتقدم الزراعي والصناعي والتكنولوجي الهائل الذي نراه أمامنا، بينما انتهت الأرجنتين بإعلان إفلاسها المدوي منذ عشر سنوات وهبوطها من عاشر اقتصاد في العالم في الخمسينات من القرن الماضي إلى البؤس الذي تعيشه الآن كدولة من العالم الثالث.أليس الأمر كما هو الحال عليه الوضع في الوقت الراهن؟ بلى فكل المؤشرات واضـحة.
ان التاريخ كما يقول المؤرخ ابن خلدون عبر وعلى الانسان أخد العبرة مبكرا...لكن هيهات هيهات.لقد عرفت عواصم الغرب خاصة الغربية منها على امتـــداد قرنين من الزمـن سفها أرجنتينيا أضاع البلاد وأفقر العباد، وذلك من قبل أقلية معتوهة جاهلة. اليـــوم تجول في عواصم الغرب لـترى أقلية عــربية جاهلة تفــعل الأمر نفسـه وتقود نحو إضاعة البلاد وإفقار العــباد.هذا الغرب بمؤسساته ومنظماته الحقوقية الحالية الذي قدر له أن يكون في موقع الشاهد، والذي يتــشدق بحــقوق الانسان لم تحركه صور المتظاهرين في الجزائر وتونس وهم يرمون بالرصاص الحي.