استطاعت الباحثة إيمان فؤاد أحمد الجويلي في بحثها (سجلماسة ودورها السياسي والحضاري) الذي حصلت به علي درجة الدكتوراه في التاريخ الإسلامي بتقدير ممتاز مع توصية بطبع الرسالة، أن تؤكد أن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، وأن كل منهما يؤثر تأثيرا مباشرا علي الآخر، و(سجلماسة) هذه موضع البحث مدينة مغربية لعبت دورا حيويا كموقع استراتيجي علي طريق القوافل في التاريخ الإسلامي، ويعني اسمها (دلو ماسة المملوءة بالماء).
تقول إيمان الجويلي موضحة الجوانب التي تناولتها رسالتها لتلقي الضوء علي مدينة مهمة في التاريخ الإسلامي علي الجانب الغربي من العالم الإسلامي: أن الأهمية الاقتصادية والجغرافية لمكان ما قد تصنع تاريخاً سياسيا ً له، فليس الاقتصاد منفصلاً عن السياسة والعكس، بل هي أدوار في التاريخ كل منهما مكمل للآخر، كما أن النزعات الاستقلالية والتي تسببت فيها الخلافة الإسلامية، واحدة تلو الأخري كانت سبباً في قيام ثورات الخوارج، حيث اضطهاد الخلافة لعنصر معين من البشر، أو سوء معاملة أو غيره من الأسباب التي قد تؤدي بدورها إلى الشعور بتلك النزعة الاستقلالية، والتي نال الخوارج منها الكثير، مما أدي بهم للخروج إلي مناطق لا تصل إليهم فيها يد الخلافتين الإسلاميتين آنذاك – الأموية ثم العباسية-، لتنشئ بدورها دولاً أو مدناً ذات كيان سياسي منفصل. ومن تلك النزعات، مع وجود الحافز الاقتصادي نشأت سجلماسة على يد الخوارج الصفرية عام 140 ه/ 757م، وكانت في بداية نشأتها تعتمد على مذهب الخوارج في اختيار حاكمها حيث مبدأ الشوري، ثم ما لبثوا أن غيروا ذلك المبدأ، وانساقوا إلى ما عابوا عليه غيرهم، فجاءت دولة بني مدرار ذات الخلافة الوراثية لتلك الأسرة المدرارية، والتي لها الفضل في نشأة سجلماسة بشكلها الحقيقي لتصبح دولة ذات كيان سياسي من حيث توسعها وبناء جيشها على يد حاكمها اليسع بن أبي القاسم، ومساهمتها بدور كبير في تاريخ تلك المنطقة، ولذلك قسمت الفصل الأول إلي نشأة سجلماسة لتوضح كيف بدأت نشأتها ثم عصرها المزدهر على يد اليسع، وما قام به من مشاريع تطوير للحياة بصفة عامة في سجلماسة، ولم يستمر الحال طويلاً فبدأ الصراع الداخلي بين بني مدرار على الحكم بينما رشح مدرار ابنه ابن أروي للحكم بدلاً من أخيه ابن تقية، فاندلعت الثورات في سجلماسة، وقد أشرت في تلك الثورة إلى دور مشايخ الصفرية مع ابن تقية، ضد أخيه بن أروي الرستمية، خشية من انتشار المذهب الأباضي في سجلماسة، وهكذا استمرت دولة بني مدرار فى الحكم فترة طويلة إلى أن سقطت منهم سجلماسة في يد الخلافة الفاطمية.
وتضيف أن توجه المهدي الخليفة الفاطمي إلى سجلماسة كان بترتيب مسبق، لبعدها عن مناطق نفوذ الخلافة الإسلامية في المغرب آنذاك، والأهم من ذلك أنها بوابة ذهب السودان، لذلك حرص المهدي منذ دخوله إليها الاستحواذ على ما بها من خيرات، فما لبث بعد دخول الشيعي لها أن قتل حاكمها اليسع بن مدرار، ثم صادر أموالها، وولي عليها حاكم من طرفه، لتظل خاضعة له، ولم يستسلم سكان سجلماسة للدخيل الفاطمي فهم لم يرضوا عن مذهبه الذي حاول مراراً وتكراراً في نشره. ولم يرضوا عن خضوعهم لأحد غير حكامهم من بني مدرار لذلك قامت الثورات ضدهم، وقتلوا واليهم، ولما كان الفاطميون في حاجة ماسة لذهب سجلماسة، فتوصلوا لحل وهو ان يظل الحكم لدولة بني مدرار، تحت تبعيتهم الاسمية، فليس مهم هنا نشر المذهب الشيعي، أو وجود السلطة الفعلية، بقدر وجود السلطة الاسمية التي تضمن ذهاب الذهب المتدفق وخيراته من السودان إلى سجلماسة ومنها إلى الفاطميين، استمر ذلك الوضع إلا أن قام الشاكر لله، بالاستقلال التام عن الدولة الفاطمية وسك نقود تحمل اسمه، مما يدل على عدم تبعيته لأي خلافة إسلامية قائمة آنذاك، مستغلاً انشغال الخلافة الفاطمية عنه في تلك الفترة، وما أن تولي المعز لدين الله الفاطمي حتى أرسل قوة عسكرية بقيادة قائده جوهر الصقلي الذي قضي على ثورة الشاكر لله وحمله معه إلى المعز، وأعاد تبعية سجلماسة باب التبرلحوزة الدولة الفاطمية مرة أخري، وظلت تحت سيادتهم، وسكت العملة الفاطمية في سجلماسة، ولم يستمر الحال طويلاً فمع رحيل الفاطميين إلى مصر وأنشأهم خلافة كبيرة تسع العالم الإسلامي، ترك الأمر في المغرب لبني زيري، وبدأ الصراع في منطقة المغرب الأقصى وسجلماسة، بين بني زيري عمال الخلافة الفاطمية، والزناتيين بمساندة أموي الأندلس، الذين طالما طال صراعهم مع الفاطميين من جهة، وطالما حلموا بالسيطرة على سجلماسة من جهة أخري، لذلك جاءت الفرصة سانحة لهم لمساندة الزناتيين ضد بني زيري، وانتهي الصراع للزناتيين، وحلفائهم أموي الأندلس، وبذلك خضعت سجلماسة لحكم زناتة والأمويين، وكان ذهبها سبباً في كل تلك الأحداث التى مرت بها، حيث حرص كل من الزناتيين والأمويين على سك عملة باسمهم في سجلماسة ولقد عاني أهل سجلماسة معاناة شديدة من حكامهم الزناتيين، حيث فرض الضرائب على السكان، والمكوس على التجار، لذلك شعر أهل سجلماسة بالقهر والظلم، فقرر رجال الدين في سجلماسة الاتصال بعبد الله بن ياسين والمرابطين، لينجدوهم من تلك المهزلة ولاقت دعوتهم قبولاً لدى الشيخ ابن ياسين وأتباعه المرابطين، فقرروا دخول سجلماسة ليخلصوا أهلها من ذلك الظلم الواقع عليهم من جهة، وأيضاً يجب ألا نغفل هنا أهمية الذهب والسيطرة على سجلماسة من أجل ذلك، فجاء الفتح الأول لها عام 445ه/ 1063 م، ثم قيام زناتة بثورة ضد المرابطين المقيمين في سجلماسة وقتلهم في المسجد الجامع، فندم أهلها على تلك الفعلة، فأرسلوا لعبد الله بن ياسين مرة أخري يطلبون نجدته، فكان الفتح الثاني عام 447 ه/ 1056م.
وتضيف د.إيمان الجويلي: هكذا أصبحت سجلماسة تحت حكم دولة جديدة هي المرابطين والتي كانت عاصمتهم الأولي ثم انتقلوا منها إلى أغمات ثم مراكش، إلا أنها لم تفقد أبداً قيمتها لديهم، إذ هي دار سك العملة المرابطية من أنقى وأصفي أنواع الذهب، تلك العملة التي أصبحت عالمية في تلك الفترة، لذلك حرص المرابطون على سجلماسة أشد الحرص، موالين عليها أشهر القادة وأمهرهم مثل يوسف بن تاشفين، وإبراهيم بن أبي بكر، وعبد الله بن الزنقي وداود بن عائشة، وغيرهم من قادة المرابطين.
ومن الملاحظ هنا مع دخول المرابطين سجلماسة لم تقم ثورات من أهلها ضدهم، كما حدث من قبل، ويرجع ذلك لحسن معاملة ولاة المرابطين لسكانها، ثم انتشار المذهب المالكي، والذي أقبل عليه معظم سكانها، بعكس ما حدث في دخول المذهب الشيعي، وبالطبع ومع ظهور دولة الموحدين، والتي حرصت بدورها أيضاً على الاستحواذ على سجلماسة باب الجنوب، وباب الذهب، سقطت سجلماسة كغيرها من الأملاك المرابطية لتدخل فى حوزة الموحدين، من 540 ه/1145 م لتظل تحت سيطرتهم حقبة من الزمن.
وعن الجانب الحضاري ل (سجلماسة) تقول: بدأت دراسة هذا الجانب بالحياة الاقتصادية نظراً لأهمية الدور الاقتصادي وخاصة التجارة بها، فبدأنا الحديث عن الزراعة وعوامل قيامها، حيث حباها الله عز وجل بالمياه العذبة والتربة الصالحة للزراعة، والمناخ الملائم، ولقد قام حكامها بعمل مشاريع الري، ليضمنوا وصول المياه لكل بقعة في أرضيهم وتنظيمها أيضاً، وبذلك تنوعت المحاصيل في سجلماسة وأهمها التمر، والعنب، والقمح والحنطة والقطن والكراويا، وغيرها وعن طرق زراعة تلك المحاصيل وكيفية تناسب تلك الطرق مع أرض سجلماسة، يتضح أن مواسم الزراعة بها تشبه مواسم الزراعة المصرية ثم تربية الحيوان، وكيف أن أرض سجلماسة قبل إنشائها كانت بقعة لرعي الماشية، لذلك كثرت بها أنواع مختلفة منها، مما جعلها ثروة في سجلماسة، و من أهم أنواعها الإبل والأغنام وحيوان اللمط.
ثم تحدثت د.إيمان عنأهمية الصناعة، وشهرت سجلماسة بالعديد من الصناعات ومن أهمها صناعة المنسوجات، والتي قامت النساء فيها بدور كبير، وصناعة الفخار والذي لم تذكره المصادر القديمة، إذ عثرت عليه البعثات الأثرية في سجلماسة والتي أظهرت مدى أهميته واعتماد التجارة على تلك الصناعة، وكانت مصانع الفخار خارج المدينة، وذلك للمحافظة على البيئة الطبيعية للمكان، وصناعة الحلي والتي أتقنها اليهود.
أما التجارة والتي تعد أساساً لنشأة سجلماسة فقد قسمتها إلى تجارة داخلية، حيث حركة الأسواق في الداخل، وكيف أن التجارة الخارجية تؤثر على حركة الأسواق، وعملية البيع والشراء وبناء الخانات والوكالات لخدمة التجارة الخارجية، ولاحظنا أن السوق في سجلماسة يشبه الأسواق الأخرى في الدولة الإسلامية، وكان من أشهرها سوق ابن عقلة، ثم عرضنا أهم الموازيين والمكاييل في سجلماسة.
وقد رأيت أن دورها التجاري الهام وتحكمها في طريق ذهب السودان كان له الدور الأول في طمع الدول المختلفة في السيطرة عليها، حتى تتمكن من التحكم في تلك البوابة، كما أدت التجارة الخارجية إلي ربط سجلماسة بالعديد من الدول الإسلامية آنذاك، فهي محطة عبور لها، وامتدت منتجات سجلماسة لكثير من البقاع، ومن أهم السلع التي اشتهرت بها سجلماسة في تجارتها الخارجية، كان الذهب، والملح والرقيق ثم الفخار والذي كما سبق القول عثرت عليه البعثات الأثرية في السودان، وأرجعت صناعته لسجلماسة، فكانت تجارة رابحة لها- كما سبق وأن أشرت- ثم تعرضت للسياسة المالية للدولة وأنواع الضرائب المختلفة ووسائل المعاملات المالية، وأهمها العملة تلك المصنوعة من أجود أنواع الذهب، وتم عرض أشكالها في ملاحق البحث، فقد حرص كل خليفة أو حاكم في سجلماسة أن تسك عملة تحمل اسمه بها، وهذا دليل صريح على التبعية والولاء.
أما عن الحياة الاجتماعية والعمرانية تقول: تناولت أهم عناصر السكان وأهمهم البربر، ثم العرب، وأهل الذمة، وأهمهم اليهود، وكيف كانت سجلماسة خليطاً من السكان، فكثرت بها الأجناس المختلفة، ليعيشوا معاً في وحدة سياسية واحدة، من أجل كسب الرزق وأهم وسائله التجارة، ولقد قمنا بعمل رسم بياني توضيحي لسكان سجلماسة، كما تحدثنا عن طبقات المجتمع، وتدرجها ويأتي الحكام على رأس الهرم السكاني، ومن الملاحظ في المجتمع السجلماسي صعود التجار الأثرياء ليكونوا بذلك ضمن الطبقة الأولي نظراً لثرائهم الكبير، وقد قمنا بعمل رسم توضيحي للهرم السكاني كما ذكر من خلال المصادر المختلفة وهو من ملاحق البحث، وفي الفصل الاجتماعي أظهرنا وسائل التسلية، وبعض العادات والتقاليد، ودور المرأة في سجلماسة.
وفى الجزء الثاني من الفصل استطعت أن أظهر أهم أنواع العمارة في سجلماسة من المسجد الجامع ودار الإمارة والأسوار والأبراج والأبواب وغيرها وأهمية كل منها، مدعمة ذلك بصور مدرجة ضمن ملاحق البحث المصورة.
أيضا الحركة العلمية في سجلماسة رغم ندرة المعلومات بها إلا أنني استطعت أن أظهر من خلال البحث أسباب قيام الحركة العلمية ودور سجلماسة في نشر الإسلام واللغة العربية، ودور تجارها في ذلك في منطقة السودان الغربي، وأهم المؤسسات التعليمية بها، ثم قيام حركة التصوف والزهد، وأوضحت كيف أن مناخ سجلماسة كان ملائم لذلك، ثم أشرت إلى أهم الصوفية في سجلماسة، والزهاد بها، كما أشرت إلى المذاهب الإسلامية التي دخلتها سجلماسة وانتشرت بها، وكان المذهب الصفري الأول بها فهو المذهب المؤسس لها ثم أوضحت عدم إقبال سجلماسة على المذهب الشيعي، ودخول المذهب الأباضي لأرض سجلماسة وتعايشه مع مذهب الخوارج في سلم، ثم كيف انتشر مذهب مالك.
وتضيف د.إيمان الجويلي: لقد أوضحت أن من أسباب انتشاره التجار العرب المقيمين في سجلماسة، وسكان الأندلس أيضاً المقيمين في سجلماسة، وزاد انتشاره بشكل فعلي مع قيام دولة المرابطين ليصبح مذهب الحكومة والشعب معاً، ثم تحدثت عن أهم العلوم والعلماء في سجلماسة، وكما أظهرت المصادر دور المدرسة العلمية في سجلماسة، وكيف أنها كانت "حاضرة علم قبل فاس"، مما يظهر مكانتها العلميةبين أترابها في تلك الفترة، وهكذا ظهرت أهمية سجلماسة كدولة هامة في العصور التاريخية الماضية كان لوجودها بالقرب من منابع الذهب دوراً أساسياً وأولياً في نشأتها وتعاقب وطمع الدول فيها، دول أو ولايات تلو الأخري للاستحواذ على تلك الثروات والخيرات ورغم هذا قامت بها دولة ذات كيان سياسي وحضاري استمر عدة سنوات حتى انهيارها واندثارها تماماً في القرن الثامن الهجري / الخامس عشر الميلادي.
يذكر أنه قد أشرف علي الرسالة د.عفيفي محمود أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة بنها، وناقشها كل من د.مني حسن أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة ود.حسن خضيري أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة جنوب الوادي، وأن المناقشة جرت بكلية الآداب جامعة بنها.
المصدر : إيلاف