محمد بنعزيز
بينما كان رئيس الوزراء عبد الإله بنكيران يتدبر أمره بمشقة مع معارضيه الواضحين والمشفّرين. وقعت عليه نصيحة علنية (بداية نونبر 2012) من أخيه السابق في الدعوة القيادي في جماعة العدل والإحسان عبد الله الشباني زوج نادية ياسين بنت مرشد الجماعة. في الرسالة المفتوحة زعم الناصح أن حزب بنكيران (العدالة والتنمية) أصبح رهن إشارة المخزن (السلطة). وعيّره بأن وزراءه يلبسون بذل بألف دولار وكانوا يكتفون بقمصان السعودية. كما لامه على عدم تورّعه ووبخه على سوق الشباب لخدمة الملكية. وطالبه أن يطلب من الملك توزيع ثروته على الشعب وتحويل قصوره الثلاثين إلى جامعات.
بل عيره بالخضوع للمخابرات. توقع منه الغضب فنصحه " صبر نفسك على سماع القول البليغ مني" واقترح عليه حلا: قدم استقالتك تُبْ واصطحبْ العلماء وتحصّنْ بذكر الله. هذه هي نفس النصيحة التي سبق للشيخ ياسين أن بعثها للملك الراحل الحسن الثاني بعنوان "الإسلام أو الطوفان". فما كان من الملك إلا أن وضع الشيخ في مستشفى للأمراض العقلية في 1974.
أثار محتوى الرسالة دهشة شديدة، فبعد كل الذي جرى منذ أحرق البوعزيزي جسده يأتي سياسي ويقترح على رئيس وزراء أن يستقيل ليتمكن من أداء صلاة الفجر في وقتها... يبدو القيادي العدلي منقطعا عن الواقع بشكل لا يتصور.
للتخفيف من حدة ردود الفعل قال محامو الجماعة بأن لها "ناطقا رسميا ومؤسسات تقريرية تُصرّف من خلالها مواقفها". وأكدو أن ما كتبه الشيباني تعبير عن موقف شخصي. كان بالإمكان قبول دعواهم، لكن القياس يفند هذا الزعم. فقد سبق لنادية ياسين أن صرحت في 2006 بأن النظام الجمهوري أنسب للمغرب من النظام الملكي، ولم يزعم أتباع الجماعة بتشنج أن كلامها شخصي.
تعقيبا على هذا الجدل ذهب رئيس تحرير "أخبار اليوم" المغربية أن الجماعة وصلت الباب المسدود واستنتج أن خطاب الشيباني موجه إلى قواعد وقيادات العدل والإحسان وليس إلى حزب العدالة والتنمية.
عمليا تحتاج قواعد الجماعة لمن يشرح لها أين هم الآن؟ وإلى أين يتجهون؟ ولماذا لا يتحدث الشيخ ياسين بنفسه؟
واضح أن صمته قبل موته قد خلق فراغا يتزاحم الورثة المحتملين على ملئه.
ما سبب النزاع بين الحركتين الكبيرتين؟
تقتضي الإجابة تقصّي الفروق السيوسيولوجية بين أنصار الحركتين بغرض استخدامها لتفسير الفروق السياسية والفكرية.
لا توجد إحصاءات عن سن ومهن ودخل أعضاء الحركتين، لذا ذهبتُ إلى ساحة كلية الآداب لأراقب بالعين المجردة الطلبة من الحركتين. من خلال نوع اللباس والأحذية والهواتف المحمولة واضح أنهم ينحدرون من نفس الوسط الاجتماعي... حتى خارج الجامعة هناك تشابه، فجل النشطاء محامون، تجار متوسطين وموظفي تعليم... عبد السلام ياسين كان موظفا في التعليم، بنكيران كان مدرسا ثم صار مدير مدرسة خصوصية... للإشارة لا تكبرُ الأحزاب في المغرب إلا إذا جذبت موظفي التعليم وهم حوالي 300 ألف...من وجوه التشابه أيضا تدهور وضع المرأة. صحيح أن هناك قاعدة نسوية ضخمة للحركتين لكن وصول المرأة لمواقع القيادية نادر. بشق الأنفس أوْصَل حزب العدالة والتنمية امرأة واحدة لمنصب وزيرة. في جماعة العدل والإحسان يحتكر الشيوخ النفوذ السياسي. صحيح أن نادية ياسين تدير "قطاع المؤمنات" لكن كثير من مريدي الجماعة واثقون "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة". ونادية ياسين وجه إعلامي أكثر منها فاعل تنظيمي.
بالنظر لهذه التشابهات يصعب العثور على تفسير شكل الوعي السياسي في الواقع المادي للنشطاء. إلا إنْ كان التشابه هو السبب، أي أن الحركتين تتنافسان في تجنيد النشطاء على نفس القاعدة الاجتماعية. وفي هذه الحالة تصير للتصورات قيمة كبرى.
على الصعيد الفكري بدأ المرشد عبد السلام ياسين مسيرته متصوفا في الزاوية القادرية البودشيشية... وهو مع الخلافة الإسلامية ويقول أن الملكية الوراثية "ليست من الإسلام"، لذلك فالجماعة ضد المشاركة السياسية إلى أن "يرْحل المخزن"... لدى أتباع المرشد شك عميق في السلطة... يعتبرون أن السلطة كشفت خصومهم. وقد استشهد قيادي عدلي على صفحته في الفايسبوك بمقولة خوزي موخيكا رئيس الأوروغواي "السلطة لا تغير الأشخاص هي فقط تكشفهم على حقيقتهم". وهذا هو لب رسالة الشيباني لنبكيران.
ماذا تقترح الجماعة؟
عمليا لا شيء.
كانت أعلنت بناء على "رؤيا" رآها المرشد في منامه أن قومة (ثورة إسلامية) ستقع في المغرب في 2006. لم تقع القومة في المغرب بل وقعت في تونس في نهاية 2010، وقد وصل ريحها للمغرب. حينها ألقى الملك خطاب تاسع مارس وقدم سقفا دستوريا عاليا. ولو قبلته الجماعة وشاركت في انتخابات 25-11-2011 لحصل الإسلاميون على الأغلبية المطلقة في مجلس النواب... حينها ترددت الجماعة، لم تكن جاهزة لقطف الثمار.
ثم إن الشعب في المغرب لا يريد إسقاط النظام. يصعب على دوغمائيي الجماعة رؤية هذه الحقيقة.
عمليا لا تقدم الجماعة اقتراحا سياسيا، وهي بلا حلفاء بسبب تركيبتها. فتسيسها يبعدها عن الزوايا الكبرى. وتصوفها يجعلها مُنفرة للمتأثرين بالسلفية. وهذا يضعفها... والجماعة تفقد منخرطين، أعرف بعضهم، "أخذوا مسافة" وهذا مرادف لتجميد العضوية، تحدثوا عن شرب بقايا ماء وضوء الشيخ للتبرك به. تقول له أنشرُ هذا باسمك فيرفض خوفا.
بخلاف ذلك يمكن لبنكيران زيادة أتباعه بل وتجنيد حلفاء، فهو قريب من السلفيين (الفيزازي والمغراوي)، وقد كان اشتراكيا منتصف السبعينات... وأنصاره براغماتيون، مؤمنون بالتعاون مع السلطة وبالتغيير من داخل المؤسسات. ومن ضمن الكتب التي كان شباب العدالة والتنمية يطالعونها في عام 2000 كتاب ستيفن كوفي "العادات السبع للإداريين".
وكان هذا بناء على توقع أنهم سيكونون إداريين يوما ما. وقد كانوا يتابعون التجربة التركية، حتى أنهم أخذوا منها اسم حزبهم. والكثير من أبناء قادة الحزب يتابعون دراستهم في تركيا اليوم.
واضح أن هناك فارق راديكالي في التوجه، فبينما قوى جماعة العدل والإحسان مجمدة تشيخ بيولوجيا وسياسيا بجانب جدار سميك وبارد في انتظار "دولة القرآن"... يخضع حزب العدالة والتنمية للاختبار في مناصب المسؤولية، يصقل مواقفه ويزيد جاذبيته لدى النخب التي تريد أن تستفيد.
لقد تضررت جماعة العدل والإحسان من الربيع الأمازيعربي لأنها جماعة دوغمائية، وكثيرا ما فسر صمت كوادر الحركة بالخضوع للشيخ ياسين والخوف من مخالفته جهرا... وما كلام الصهر إلا صدى للشيخ.
الآن وقد رحل الشيخ الذي طبع سيرة جيل من المغاربة بإسلام معتدل،رباني أي غير مسيس في جوهره، سيكون على ورثة القيادة أن يقرروا، هل يلتحقوا بركب الحركات الإسلامية التي استفادت من ريح الثورة أم يبقوا في غرفة الانتظار.
مع مشهد عشرات الذين مشوا في جنازة الشيخ يوم 14-12-2012، سيكون في صالح بنكيران أن تكتفي الجماعة بنصح خصومها بالتوبة بدل منافستهم في صناديق الاقتراع.