العرب أونلاين- عبد الدائم السلامي
لعلّ ممّا يميّز مسرودات الكاتب المغربي هشام بن الشاوي هو أنها تقول معانيها بعفويّة وبلا قفّازات، وهي عفوية ما إن نطمئنّ إليها حتى تخرجنا، سهوا رهوا، من مألوفات تصوّرنا عن الكون إلى فضاء غير المتوقَّع فيه، حيث تتغشّانا منه حيرةٌ لا نملك معها إلا الإنصاتَ إلى النصّ وهو يجري فينا بمعانيه.
لا نشكّ في أنّ اطلاع هشام بن الشاوي على التجارب الروائية العربية والغربية، تلك التي نُلفي لها صدى في مقالاته ومحادثاته، يختلف كبير اختلاف عن تأثّر مجايليه بها. فهو، وإن كان لا يملك ترف الكتابة والقراءة على حدِّ ما كتب إلينا مرّة، يتوفّر على روح سرديّةٍ مُغامِرةٍ تستفيد من حركة السرد الراهنة ولكنها تسعى إلى إعادة تنزيلِها منازل خاصّة ضمن تجربته الكتابية. وهو أمر يجوز لنا معه القول إنّ لسرود هشام بن الشاوي رغبة في تحطيم أوثان الجاهز من تقنياتِ الكتابة والترحّل بالجملة السردية من مقام الإخبار والتوصيف إلى حيز مساءلة موجودات الأرض حول أحقيّتها في أن تملأ فضاءاتنا الماديّة والتخييليّة أو أن تهجرها إلى عدم سحيق.
أصدر القاص والروائي هشام بن الشاوي ثلاث مجموعات قصصيّة هي "بيت لا تفتح نوافذه…""2007"، و"روتانا سينما.. وهلوسات أخرى" "2008"، و"احتجاجا على ساعي البريد" "2012"، إضافة إلى روايته البكر "كائنات من غبار" "2010".
وابن الشاوي واحد من المبدعين الذين لا يكتبون للترف الفكريّ أو للتباهي الاجتماعي ونشدان الشهرة، بل هو يكتب للضرورة: ضرورة الاحتجاج على الواقع والسخرية منه في آن دونما ادعاءاتٌ إيديولوجية.
وهو أمر جعله يحضر في أغلب نصوصه حضورا الدال والمدلول معا: إذْ هو يحضر بإنسانه المغربيّ الممتلئ بمأثورات ثقافته الشعبية، وهو يحضر بمواطِنه الذي غيّمت آفاقه سحب الأزمات الاجتماعية، وهو يحضر أيضا بمبدِعِه الواعي بدوره التاريخيّ في تنبيه الناس إلى ما به تُبنى حضارةُ الإنسان من قيم الجمال والخير وحفزهم عليها.
رواية "قيلولة أحد خريفي"، الصادرة حديثا عن دار طوى بلندن، والتي فازت بجائزة الطيب صالح للإبداع العالمي، هي ثاني إصدار روائي لهشام بن الشاوي بعد روايته الأولى "كائنات من غبار"، وفيها يقف القارئ على كمٍّ من المساءلات التي لا يني هشام بن الشاوي يطرحها على الآخر، المتلقّي، من جهة اتصاله بوقائع معيشه وما يكون من أمر فعله الثقافيّ فيه.
وهو أمر يجعل من "قيلولة أحد خريفي" فعلا حكائيا ينزع إلى التجريب في مقامات السرد وفنونه ولكنه لا يذوب فيه، بل نُلفي ابن الشاوي يسم حكايته بميسمه السرديّ الخاص الذي يجد له القارئ تجلّيا في مجاميعه القصصية المنشورة سابقا، حيث يدفع بشخوص روايته وبحراكهم الحدثيّ إلى خوض مجابهات اجتماعية وثقافية ضمن فضاءات متحرّكة انتقاها لهم ببصيرة المبدع الذي لا يركن إلى الصدفة ولا تستهويه سكينة الأشياء والوقائع، وإنما يروم في كلّ جملة سرديّة يكتبها تثويرَ المسكوت عنه الاجتماعي وصبغه بأصباغ الغموض الحكائيّ الذي يزرع الحيرة في المتلقّي ويُثير فيه الرغبة في تعرية ما تحت قدميْه وتفجير صمته وتأويل مظاهره عساه يحقّق في كل ذلك بعضًا ممّا تكتظّ به انتظاراتُه.
وإذْ يفعل هشام بن الشاوي ذلك، يلوذ فيه بالسخرية السوداء سبيلا إلى كشف معاناة المبدع في واقع يزدري الكتابة، بل ويزدري معنى الأشياء، إضافة إلى فضح العلائق الاجتماعية التي تخنق رغائب الناس بمقولات الحياء وما جاورها، وزحزحة ثقل المألوف من تصوّراتنا عن وظائف الرواية وفنونها بصورة عامّة، حتى نخالُه يتغيّا تهشيم أوثان آلهة السرد، وصياغة أخرى متمرّدة عليها، ليس لها من وَكدٍ سوى توريطنا في حكايتها، وحَفْزنا على تمثّل شخوصها دون أقنعة، والإيمان بما آمنوا به ، وتقبّل مصائرهم التي انتهوا إليها بصبرٍ، كما لو كانت رواية كُتبت لنقرأها نحن فقط، بل كُتبت لتكون روايةً عنّا أيضا، ولكن دون مجاملات.
وفي هذا الشأن، يقدّم هشام بن الشاوي في روايته الجديدة توصيفًا مائزا لحال الإبداع الكتابيّ ولحظات تخلّقه عند الكاتب، حيث نقرأ له: "كنت مهمومًا بالرواية بشكل لا يطاق، بشخصياتها التي تنمو وتتعملق بداخلي، وتتصارع لكي تدافع عن حقها في الوجود… أبدو شبه غائب عن الوعي، ألعن ضجة هذا القطار- الخردة، التي تجعلني غير قادر على أن أركز في القراءة والكتابة.
أفكر في طقوس الكتابة، وأستغرب كيف يستطيع بعض المبدعين أن يكتبوا في المقهى وسط دخان الرواد وصخبهم.. أرسم أشكالا هندسية هلامية، أدوّن عبارات بلا معنى. أحس أن هناك من يختلس النظر إلي معتقدًا أنني معتوه.. كالفتاة الجالسة قبالتي، بملامح شبه بلهاء، وأمها العجوز تتحدث إلى الشاب المجاور لي. أسارع بتمزيق الورقة، وعلى صفحة جديدة أخط أسماء شخوص الرواية، وكمن يحل معادلات رياضية.
أرسم خطاطة للأحداث باحثًا عن رابط خفي بين ما حدث وما سيحدث. أحس بأنني أمقت "ولد سلام"، الذي أفسد علي متعتي بالكتابة مدركًا بأن هذا الفصل قد يكون أسوأ ما في الرواية، وعلي أن أتفادى أي تنميط ساذج. أتذكر من ألهمتني هذه الرواية. لقد اختفت بعد أن أينعت براعم محكياتها… لعلها على وشك أن تصبح أمًّا، في حين مازالت أكابد مخاض هذه القيلولة".