ترجمة: طاهر علوان
إنها باختصار قوة الإرادة والصبر على تلك العاصفة الهوجاء القاتلة التي عصفت بحياة الكاتبة الكمبودية الشابة فادي راتنر التي تعيش اليوم ومنذ ثلاثة عقود في الولايات المتحدة، وتواصل روايتَها للفظائع التي شهدتها وهي طفلة.
ففي العام 1975 استحوذ الخمير الحمر على كل شيء في كمبوديا وارتكبوا مجازر أودت بحياة الآلاف من البشر؛ هذا كله شهدته راتنر وهي طفلة نجت مع أمها بأعجوبة ووصلت إلى الولايات المتحدة في العام 1981 وهي لاتعرف كلمة واحدة باللغة الانكليزية لتتدرج في مسار الحياة وتتعلم وتتخرج من الجامعة ثم تكتب روايتها الأولى التي بدأت تنال حظها من النجاح.
عندما كانت في الخامسة من عمرها واجهت فادي راتنر قدرها وهي البنت المنحدرة من عائلة ارستقراطية وترفل بحياة هانئة عندما اجتاح الخمير الحمر العاصمة فينوم بنة، جنود ومليشيا الخمير الحمر يتدفقون على بوابات المجمع الذي تسكنه راتنر وعائلتها وهم يأمرونهم بالمغادرة فورا وكانت تلك بداية أولئك المسلحين لاجتياح كل شيء وبث الرعب في كل مكان مخلفين وراءهم آلاف الضحايا الكمبوديين بعد أن انتشرت آلة القتل وطالت كل شيء بما في ذلك جميع أفراد عائلة راتنر باستثناء أمها التي نجت بأعجوبة من تلك المذابح المروعة.
وبعد ذلك بعقود، ها هي الفتاة الصغيرة تروي قصتها من خلال إصدار روايتها الأولى التي حملت عنوان "في ظل بانيان" حيث تعرض فيها جانبا من سيرة الطفلة رئامي التي تنحدر أيضا من عائلة كمبودية ارستقراطية فقدت كل شيء عندما سيطرت مجاميع الخمير الحمر على البلاد.
تقول راتنر إنها غالبا ما كانت تشعر بأنها أقرب إلى كائن غريب الأطوار من كونها مجرد طفلة، لكنها مع ذلك كانت تدرك حقيقة نفسها ثم إنها شعرت مرة أخرى بأن ثمة شيئا فيها مختلفا بسبب أنها كانت تعرج في مشيها جراء إصابتها بمرض شلل الأطفال في سن مبكرة من طفولتها. وكانت تلك معضلة رافقت سيرتها كشخصية أساسية بل وبطلة ذلك العمل الروائي من خلال شخصية رئامي. وفي أحد الأيام كان هنالك طفل من أطفال العائلة قد بدأ بالإساءة إليها والنيل منها قائلا إنها ليست من هذه العائلة وإنما وجدوها مرمية في الطريق وجلبوها وهنا وفي مشهد مؤثر تركض باتجاه أبيها لكي تشعر بالطمأنينة وتتخلص من ذلك الأحساس.
لكنها تفاجأ بقول أبيها: "هل تعلمين يا صغيرتي، إن كلامهم هذا ربما يكون صحيحا، نعم أنا وجدتك ولكن في عش من أعشاش العصافير والدليل أنك كنت تتهادين كما الطير وأنت تمشين ولهذا فإن هنالك تلك الأشياء المسماة أجنحة ستظهر على ظهرك في ما بعد".
تقول إنها نظرت إليه باستغراب وهو يهمس لها: لقد كان ذلك مجرد حلم لا أكثر.
تقول راتنر إنها أحبت دوما طريقة والدها في تحويل الحقيقة إلى شكل آخر أو الإيهام بالحقيقة ولهذا فإنها عندما بدأت كتابة "في ظلال بانيان "لم ترد أن تأتي بالوقائع والأحداث في شكل من التتابع الزمني المجرد فحسب بل كانت تهدف إلى أن تقدم عملا فنيا.
تقول "لقد كان هدفي أن أقدم عملا روائيا عن الأمل والعيش، عن الأواصر العائلية غير القابلة للانكسار كما أنني كنت أركز وأهتم بتقديم عمل روائي قائم على قوة في السرد القصصي والمعاناة الهائلة لسبب بسيط هو أن تلك الوقائع هي التي أنقذتني، القصص، الشعر، الحكمة التي خلفها والدي كان لها دور كبير في حياتي".
وتُضيف: "ما أريد أن أوصله إلى القراء أيضا هو أن يشعروا بعجز تلك الطفلة في مواجهة ما لاطاقة لها به وعجزها في بعض الأحيان عن فهم ما يجري من حولها، لقد كنت أريد من قرائي أن يشاهدوا مرآة نفسي"، وذلك على اعتبار أنها الروائية التي تحمل نفس شعور شخصيتها الرئيسية رئامي، إنها ببساطة مسؤولة عن موت أبيها بشكل ما على أيدي الخمير الحمر وفي هذا الصدد تقول راتنر: "لقد ألّفت هذا الكتاب لكي أرى أبي وأشعر به حيا من جديد وحيا معي إلى الأبد".
وتقول إن أمها كانت دوما محاطة بحرس من الخمير الحمر الذين أذلوها وأجبروها على أعمال السخرة وعرضوها للتجويع والترويع ولكنها كانت تتحمل كل ذلك لا لشيء سوى للحفاظ على حياة طفلتها الوحيدة .
والخلاصة أن راتنر تقدم في هذه الرواية تجربتها القاسية، تقدم شهادة مؤثرة عن زمن الخمير الحمر وبطشهم وفظائعهم، ومن خلال قصتها تصوّر معاناة العشرات من أمثالها ممن عاشوا أو مروا بتلك الأيام العصيبة.
تقول راتنر: "إن هذا العمل ما هو إلا رسالة محبة لأبي وذلك في النصف الأول من الرواية أما في النصف الثاني فهو تحية لأمي لقوتها وصبرها، لتلك المرأة التي كانت تعيش معتمدة على أبي ومتكئة عليه وفجأة وجدت نفسها في وجه العاصفة، إلى تلك المرأة التي كانت لديها قوة عجيبة وإرادة لا تقهر وثقة بالنجاة مع طفلتها التي صارت اليوم كاتبة تروي للملايين مكابدات عاشتها."