العرب أونلاين- فاروق يوسف
يتهيأ المتحف الوطني الأردني لإقامة معرض استعادي شامل لرسوم الفنان العراقي رافع الناصري "ولد عام 1940". وهو المعرض الاستعادي الأول الذي يقيمه الناصري المقيم في العاصمة الاردنية منذ حوالي عشرين سنة. الناصري الذي درس الفن في بغداد وبكين
ولشبونة كان قد لعب دورا كبيرا في تدعيم ركائز الحركة التشكيلية في العراق وبالأخص في مجال الحفر الطباعي "الكرافيك" حين أسس فرعا لتدريس ذلك الفن في معهد الفنون الجميلة كان رئيسه لزمن طويل.
لم تتخذ علاقة الفن بالطبيعة لدى رافع الناصري طابع الثنائية التي يتجاذب طرفاها عناصر الجمال: يتقاطعان، يتبادلان الخبرات، يتناقضان، يتنازعان. بل كانا دائما الشيء نفسه، مع اقرارهما باختلاف موادهما وتقنيات التعبير عن استقلالهما. هما الشيء نفسه: تشف الطبيعة عن الفن ويفعل الفن الشيء نفسه حين يشف عن الطبيعة، القوة التعبيرية نفسها، الخيال المحلق نفسه وصولا إلى البعد الشعري الذي تنتهي إليه عملية التأمل التي تستعير عدتها من عالمي الطبيعة والفن مجتمعين. رافع الناصري كان خبيرا بإرادة الطبيعة وهي تعلن عن انحيازها لقوة الخير. كان الرسام العراقي يستأنف عمله من لحظة تفاؤل، ما من شيء يدعو إلى اليأس.
كل رسوم الناصري تبدأ من لحظة تماس متخيلة بالواقع، كونه حاضنة للأمل. هذا رسام يحث حواسنا على أن تكون في حالة يقظة دائمة. وما نفع الحواس في عالم كله اشراق؟ رافع الناصري رسام حدسي. يضع يده على القصيدة فتبتل اصابعه بمعانيها الداخلية. بالنسبة إليه الطبيعة لم تكن سوى قصيدة لم تُكتب بعد. من اللغة يستعير أحيانا حروفا، كلمات، جملا، ولكنه لا يبحث عن السياق الواقعي الذي يمكنه أن يكون ملاذا لاستعاراته. يهرب بما قرأه لكي يكون مخلصا لما رآه في وقت سابق. لديه يمتزج الفكر والنظر ليشكلا قوة خلق. لن يكون مجال الصورة هنا محصورا بالتأويل، سيقع ما لا يمكن أن يتوقعه الفكر. ستتمكن الصورة من القبض على الجمال باعتباره حقيقة مثالية.
هنا بالضبط ترتجل حواسه بوصلتها الواقعية، يرى الرسام ما لا نراه في الواقع. لقد جرب الناصري أن يكون مصورا ونجح في التقاط صور فوتوغرافية فشلنا في القبض عليها، نجح خياله وفشلت عيوننا. ولأنه لا يكف عن الايمان بأن الرسام ينبغي أن يكون مصورا في أساس حرفته فإنه لا يفارق المكان الذي يطل من خلاله على تحولات الطبيعة. ما من شيء يمنعه من رسم حياة صامتة. مشاهد مستلهمة من وقائع بصرية، مادتها فواكه وضعت في صحن على المائدة. لن يكون عليه أن يعتذر، لأنه كان واقعيا.
ربما سيكون علينا أن نتحدث عن واقعية مثالية. الرسام التجريدي يلهم الواقع شيئا من أصول مهنته، التي لن تكون سوى ذريعة. فهذا الرسام ليس له سوى هدف واحد: الجمال مثلما هو، في الحيز الذي توحي به فكرته المتخيلة. وهي فكرة تمتزج تقنيات الوعي بحيل المواد المستعملة من أجل ابتكار شكل لصورتها النهائية. تلك الصورة لن تكون إلا نوعا من الوشاية بعالم هو بمثابة الوجه الآخر لعالمنا. يقف الناصري على الضفة الأخرى، هناك حيث تقف القلة الملهَمة من الناجين. ولكن كفاحه يسبق كفاح تلك القلة، من جهة ثقته بنبل مسعاه الروحي.
كان الرسام رائيا لمصير لم تعد البشرية تكترث به. ولإنه لا يرى في الرسم نوعا من الرثاء فقد اتخذ من الصبر وسيلة لتفكيك ما يرى واعادته إلى أصوله التجريدية. تكون الحياة صالحة للعيش بالقدر الذي تبرر وجودها من خلال الفن. رسوم الناصري تعين الحياة على تعديل مسارها وتصحيح طريقتها في النظر إلى معانيها المضطربة. ما لا تفصح عنه سياقات العيش المباشر يتكهن به الجمال. هناك دائما لحظة فالتة، لحظة هي بمثابة الخزانة التي تلجأ إليها الأرواح الهائمة. شغفَ الناصري بالمدن التي ارتحل إليها مغتربا، غير أن مدينة واحدة كانت قد حظيت بأدعيته هي بغداد. كل المدن التي سكن فيها أو مر بها كانت بالنسبة إليه أبوابا، يضع يده عليها ولا يدفعها خشية ألّا يجد شيئا وراءها.
كان العالم يغنيه بعده الماورائي ما دامت بغداد بعيدة. بسبب الغربة بكل ما تعنيه من شعور بالضجر الوجودي تغير فعل النظر لديه. صار الفن هو الاحتمال البصري الوحيد. سيكون عليه أن يقول أن الحياة كانت شيئا مختلفا. كان الفن يومها هو الآخر شيئا آخر. غير أن هذا الرسام لم يكن معنيا يوما ما بالمرثيات. فرشاته لا تتذكر بقدر ما كانت تحلم. حدثني عن النهر وكان يحلم بصباه. لا تمشي الأشباح على سطح المياه. النهر مادة نموذجية لتدريس النسيان.
ضربة رافع الناصري على سطح اللوحة هي أشبه بالموجة التي تمحو ما قبلها. ومع ذلك فلا يزال هناك شيء من الطبيعة التي محاها يتثاءب بين يديه. لقد تعلمت فرشاته دروسا في السفر في الزمن. تنسى لتتذكر وتتذكر لتنسى. تجريدياته تشف عن طبيعة يخالها المرء قد ذهبت بعيدا، غير أن الناصري إذ يستحضرها لا يكترث كثيرا بصورتها، بل يهمه أن يقبض على خيالها الذي لا يزال ينعم عليه بلذائذ ومسرات روحية. ولأنه لم يؤنسن الطبيعة فقد حفظ لها كرامتها البرية. هي ذي الأم التي يسقي حليبها ينابيع الرؤيا. أخلص رافع الناصري للرسم، بالقوة نفسها فقد كان مخلصا للطبيعة. لا لشيء إلا لأن الطبيعة كانت بالنسبة إليه نوعا من الرسم. في كل لحظة تأمل هناك شيء من الرسم، يقع لكي يكون لما نفعله معنى.
كان رافع الناصري رساما للمعاني التي لا يمكن أن ندركها إلا بعد تحررنا من قيود وجودنا الأرضي. شيء منه يقع في السماء.