الانتكاسات العسكرية:
إن الاحتلال الفرنسي للجزائر قد أخل بالتوازن في حوض البحر المتوسط وهدد وضعية بريطانيا العظمى. كما مثل تهديدا مباشرا للمغرب باعتباره أخطر ما واجهته البلاد بعد ثماني سنوات من تولية السلطان مولاي عبد الرحمان. ذلك أن هذا الاحتلال قد أدى إلى تطويق المغرب وعزله عن آفاقه الطبيعية والتاريخية. وجعل واحدة من أبرز القوى الاستعمارية في القرن 19 جار مباشرا له.
الشيء الذي جعل أمنه واستقلاله عرضة لأخطار محدقة حيث بدا واضحا أن احتلال الجزائر لم يكن سوى مرحلة أو خطوة في أفق إتمام السيطرة الفرنسية على مجموع شمال إفريقيا. لذا كان من المتوقع أن يحدث نزاع بين الفرنسيين والمغاربة خصوصا بعد المساعدات التي قدمها المغرب للأمير عبد القادر الذي كان يتزعم مقاومة الغزو الفرنسي لبلاده. فالسلطان المولى عبد الرحمان لم يستطع أن يتجاهل نداء سكان تلمسان، ولا أن يرفض دعمه لعبد القادر، ولا أن يبقى مكتوف الأيدي أمام غارات القوات الفرنسية على المغرب الشرقي، مما سبب في أول مواجهة عسكرية مباشرة منذ معركة وادي المخازن، حيث تمكنت قوات المارشال"بيجو" من سحق الجيش المغربي بقيادة سيدي محمد ابن السلطان في معركة لم تستغرق أكثر من أربع ساعات (28 رجب 1260 هـ/ 14 غشت 1944) وأعقبها قصف الصويرة بعد أن كانت طنجة قد تعرضت لقصف مماثل قبل معركة إيسلي بأيام قليلة (8 غشت) بقبول السلطان صلحا(اتفاقية طنجة 10 مارس 1944) بمقتضاه يتعهد بعدم مساندة الأمير عبد القادر وطرده من التراب المغربي. وتم تركيز هذا الصلح بعقد معاهدة للامغنية (18 مارس 1843)التي تعين الحدود بين المغرب والجزائر. وجاءت بنودها غامضة لأغراض استعمارية.
*لقد كانت هزيمة إيسلي حدثا تاريخيا بارزا باعتباره دشن مرحلة جديدة في تاريخ المغرب الأقصى.
*وقعة إيسلي لم تكن في الواقع موجهة فقط من قبل فرنسا ولكنها موجهة باسم سائر الدول التي كانت تعاني من صمود المغرب.
*وضعت الرصيد المعنوي للمغرب محط التشكك وفتحت المجال للأطماع الاستعمارية في البلاد.
*كانت معركة مشؤومة هدت كيان الدولة المغربية وشمتت فيها أعدائها، وأبانت عن مدى ضعف المؤسسة العسكرية وضعف جيشها المدافع عن حوزتها وعن عدم استعداده لخوض غمار حرب ضد دولة أوربية حديثة هي فرنسا.
وإذا كانت فرنسا قد دشنت سياستها العدوانية ضد المغرب بمعركة إيسلي فلا غرابة أن نرى إسبانيا التي كانت تحتل سبتة ومليلية وجزر كبدانة أن تحاول الظهور في الميدان لتثبيت وجودها في المنطقة. ولتؤكد للمغرب وللدول الأوربية قدراتها وإمكانياتها حتى تفرض هذا الوجود.
وهكذا لم تمض بضع سنوات على هزيمة إيسلي وبالذات في آخر سنة من حكم السلطان عبد الرحمان حتى نشهد إسبانيا تتذرع بحادث حدود سبتة لتشهر الحرب على المغرب. فقد عمد الجيش االاسباني بسبتة إلى بناء قلعة حربية حول المدينة بالحجر والطين بدلا من الخشب كما كانت العادة المتفق عليها، مما أثار احتجاج قبائل أنجرة المجاورة للبناء الجديد، فتصدت للبناء وهدمته ونجست الراية التي نصبت عليه حسب ادعاء حكومة مدريد، عندئذ انتهزت الحكومة الإسبانية الفرصة وأمرت حاميتها المعسكرة في سبتة بالتوغل داخل التراب المغربي لمعاقبة قبيلة أنجرة انتقاما للشرف الإسباني. فقابل الانجربون القوة بالقوة، ودارت بين الطرفين معارك تلتها من إسبانيا مطالب مشتطة رفضها المغرب(إعدام 12 شخص من أنجرة اعتبروا مسؤولين عن الحادث- الاعتراف لإسبانيا بالحق في القيام بكل ما تراه لازما لسلامة مدينة سبتة)، ولم تفض جولة المحادثات الدبلوماسية ولا وساطة إنجلتر إلى حل سلمي. فانقطعت المفاوضات وأعلنت إسبانيا الحرب على المغرب (22 أكتوبر 1859) المعروفة بحرب تطوان.
وبعد أربعة شهور من المعارك تم احتلال تطوان فطلب السلطان حينئذ الصلح، تم الاتفاق على شروطه الأساسية في 25 مارس 1860، وبتاريخ 26 أبريل 1860 أمضى الطرفان المعاهدة النهائية والتي نصت على توسيع رقعة الاحتلال الإسباني في سبتة ومليلية. والتنازل لها عن حق الصيد في المياه المغربية الجنوبية، والتزم المغرب بعقده معاهدة تجارية مع إسبانيا والترخيص لها بإنشاء بعثة قتصلية لها بمدينة فاس. كما نصت على فتح الباب للمبشرين الإسبان على أن أقسى شروطها هي تأدية المغرب لتعويضات حربية باهضة سيضطر إلى الاستدانة من إنجلتر لتسديد نصفها في حين أن النصف الآخر سيقتطع من مداخيله الجمركية طيلة ربع قرن.
وترتبت عن هذه الهزيمة أزمة مالية خانقة أدت إلى إفراغ الخزينة المغربية كما اعترف بذلك السلطان محمد بن عبد الرحمان نفسه في أوائل سنة 1861 بعد تأدية أول دفعة من دفعات الغرامة الحربية"...دفعنا ما كان عندنا ببيت المال هنا بفاس وما كان ببيت مال مراكش حتى لم يبق تحت يدنا إلا ما نقضي به حاجة مع الجيش إذ لا يمكن صبرهم على الخدمة والجوع والعرى ومع ذلك فهو قليل لا يقنعون به".
ولقد أبرز المؤرخ جرمان عياش في دراسة قيمة أهم جوانب هذه الأزمة وذيولها. لقد كانت حرب تطوان أسوأ أثرا مما قبلها في تعزيز النفوذ الاستعماري في البلاد، وإفقادها ما بقي لها من الاعتبار، وأحدثت هزة عنيفة في الشعور العام لدى المغاربة، يقول الناصري موضحا عواقب هذا الحدث"...ووقعة تطاوين هذه هي التي أزالت حجاب الهيبة عن بلاد المغرب واستطال النصارى بها وانكسر المسلمون انكسار لم يعهد لهم مثله وكثرت الحمايات ونشأ عن ذلك ضرر كبير..".
وخلاصة القول أن هزيمتي إيسلي وتطوان قد سجلتا بداية مسلسل من النكسات اللاحقة زعزعت المعطيات السياسية والعسكرية والاقتصادية ومهدت الطريق للاستعمار.