يثير الحديث عن المسألة الإصلاحية في مغرب القرن 19 عدة إشكاليات منها ما يتصل بالجانب النظري (تحديد المفهوم والتصور)، ومنها ما يتعلق بالواقع والتدابير الإصلاحية كما مورست، ومصادرها والميادين التي طالتها، فمفهوم الإصلاح قد يكتسي عدة معان وقد تتداخل دلالته مع دلالات مصطلحات أخرى كالتحديث والتجديد والتغيير والنهضة...وأمام هذا التداخل لا مناص للباحث أن يحدد التوظيف الإجرائي لهذا المفهوم، وفي هذا الصدد نرجح التمييز الذي أبرزه" علي أومليل" في دراسته عن "الإصلاحية العربية" بين منطق الإصلاح الإسلامي القديم والإصلاح الإسلامي الحديث من حيث أن الإصلاح الثاني يختلف عن الأول بإحالته على الآخر واتجاهه إلى الغير في تصوره ومباشرته لعملية الإصلاح وصياغة مشاريعه، ولقد شهد المغرب خصوصا منذ منتصف القرن 19 دعوات ومشاريع وحركات إصلاحية في سياق الاحتكاكات الأولى التي وقعت بين المغرب وأوربا أو ما يعرف بصدمة الحداثة كما تتردد في أدبيات وفكر النهضة، وقبل أن نتعرف على نموذج من هذه الإصلاحات (العسكرية) لا بد من الإشارة إلى الاعتبارات التالية:
تنشا الحاجة إلى الإصلاح والشعور بضرورته ووجوبه في كل مجتمع نتيجة لوعي بخلل ذاتي وبتدهور الأوضاع الداخلية، كما يمكن أن يكون ناتجا عن وعي بأخطار خارجية محدقة بكيان هذا المجتمع. وقد يكون ناتجا عنهما معا، وهذا شأن المغرب منذ منتصف القرن الماضي باعتبار أن الإصلاح مثل ظاهرة طويلة الأمد واكبت تاريخ المغرب. فكانت دوما مصادر داخلية للإصلاح في مقدمتها النموذج السياسي الإسلامي. إلا أن واقع الاحتكاك مع الدول الأوربية خلق وضعا جديدا وبالنتيجة فرض مصدرا خارجيا للإصلاح.
إن ما يلفت النظر بخصوص هذه التدابير الإصلاحية أن كل المبادرات جاءت في الغالب من الجهات الرسمية وتمت على يد الجهاز المخزني والسلطان.
لا يمكن ربط التجربة الإصلاحية ربطا سببيا بجملة من العوامل المحددة، بل ما يمكن التأكيد عليه أنها جاءت نتيجة تفاعل احتكاك شروط مميزة لوضع داخلي يتسم بتأخر شامل في هياكله وبنيانه، تقابله شروط وضع خارجي يتميز بتقدم بنياته العسكرية والصناعية والعملية.
كانت الإصلاحات التي كان السلطان ينوي القيام بها متداخلة فلا يمكن أن يفلح في إحداها أن أخفق في سائر الإصلاحات الأخرى لذا مست المحاولات الإصلاحية كل الميادين والقطاعات (مالية –عسكرية – إدارية- تعليمية...).
لا بد من التمييز بين الإصلاحات التي كان الأجانب يرغبون في إدخالها قصد " تمدينه" وتغيير البنى التقليدية التي تعرقل كل عمل تحديثي من جهة أولى، والإصلاحات التي كان السلطان مقتنعا بضرورة القيام بها من جهة ثانية،مع ما اقترن بهذه القناعة من حرص شديد على الحفاظ على استقلال البلاد والوفاء بالتقاليد والمقومات الإسلامية فضلا عن عدم ثقة السلطان بأية دولة أوربية وإدراكه للأهداف التي كان الممثلون الأجانب يرمون تحقيقها من وراء الإصلاحات المزعومة التي يوصون بها إضافة إلى وعيه بالصراع الدائر بين الهيئات الدبلوماسية التي كانت ترعى مصالح الدول التي تمثلها في المغرب، كل هذه المعطيات تفسر لنا طابع الاحتراس والتردد الذي طبع كل خطوات السلطان وميز سياسته الإصلاحية إذ كان على بينة من تحفظ الأمة إزاء كل أشكال التدخل الأجنبي وموقف العامة الرافض للاقتراحات الأجنبية، وهو رفض له مشروعيته ومبرراته خلافا لما روجته بعض الكتابات الأجنبية من كونه راجعا لتعصب المغاربة وكراهيتهم المطلقة للأجانب، فالمصادر الأجنبية وحتى بعض النصوص المغربية حافلة بأحكام عديدة في شأن هذه المواقف (مثال العربي المشرفي).
إن الإصلاحات الموصى بها من قبل الدول الأجنبية كانت ذات طابع اقتصادي ومرتبطة بما يضمن مصالحها الحيوية بالبلاد وتوسيع استثماراتها، لذا نصادف في كل البرامج الإصلاحية التي اقترحها القناصل الأوربيون إلحاحا على بعض القطاعات بالتحديد، وعلى الميادين التي يمكن لهذه الدول الاستفادة منها كالمطالبة بإصلاح بعض الموانئ المغربية كميناء الدار البيضاء وآسفي وطنجة، وإدخال التلغراف لتسهيل المبادلات بينها وتأسيس دور ومتاجر الأوربيين، وإلغاء قرارات منع المتاجرة ببعض المواد، وبناء الطرق وإنشاء سكة حديدية لتسهيل النشاط التجاري والتحكم فيه.
فغني عن البيان أن الإصلاحات كما أراد الأوربيون صياغتها وإنجازها كانت تستهدف خلق شروط مواتية لضمان استغلال منظم وعقلاني لصالح الرأسماليين الأوربيون ولفائدة المؤسسات الاستعمارية وتوفير قنوات مناسبة للتسرب الأجنبي، غير أن إدخال مثل هذه الإصلاحات كانت تعني عند المغاربة مزيدا من التمازج بالأجنبي وما يترتب عنه لهذا واجهوها بالرفض الذي عبر عنه فئة من العلماء (مثال: المغيلي محمد بن عبد الكريم: جواب وسؤال فيما يجب على المسلمين من اجتناب الكفار).
وثمة تمييز آخر يكمن في دلالة معنى الإصلاح بالنسبة للقوى المجتمية وهو تمييز يمثل السبب الجوهري في إخفاق الإصلاح حسب رأي " عبد الله العروي" في كتابه" مفهوم الدولة" حيث يلاحظ هذا الأخير أن الإصلاح لم يكتب له النجاح سواء في المغرب أو في كل بلدان العالم الإسلامي لأسباب متعددة غير أن السبب الرئيس -يرى العروي- كون أن الإصلاح لم يكن يعني معنى واحد بالنسبة للمخزن من جهة وبالنسبة للرعية أو من يتكلم باسمها من جهة ثانية.
فالإصلاح بالنسبة للدولة يعني تقوية السلطة من خلال التذرع بلوازم مواجهة الأجانب (العدو) وبالتالي يبدأ بتدريب الجيش وتسليحه في مثل هذا الحال فإن الإصلاح لا يرتقي إلى مرحلة القطيعة مع الماضي بل يعني تثبيت النظام القديم بأساليب تبدو تجديدية، بيد أن الإصلاح بالنسبة للعلماء فإنه يعني القضاء على أسباب الانحطاط في مقدمتها الاستبداد الذي أدى إلى الجور والاستئثار بالخيرات، وأن الإصلاح هو الرجوع إلى حكم العدل والشورى وتحقيق المصالح العامة، وهو الطريق الوحيد لمواجهة العدو، ويخلص العروي من هذا التمييز إلى أن التناقض في فهم الإصلاح ومضمونه هو العامل الذي كان وراء إخفاق كل تجربة إصلاحية في بلدان العالم الإسلامي.