رضاب نهار
في الأوقات الصعبة يظهر الفن الحقيقي ليواسي إنسانيتنا التي بدأنا نفقدها في ظل واقع صاخب، تتشابك فيه القضايا الإنسانية مع أمور الحياة المادية. ويقرّبنا من أرواحنا التي باتت بعيدة عنا في هكذا واقع.
وطارق البطيحي الذي تخرّج من كلية الفنون الجميلة في دمشق عام 2006، فنان تشكيلي شاب، يحاول أن يجد ملامح البلد بطريقة جديدة، ويبتعد بنا عن المرارة ليخبرنا بأن الحياة لا تزال تنبض بالفن والحب.
يأخذنا نحو اتجاهات مختلفة ويؤمّن لنا فسحة ولو صغيرة من حياة.
يتفرّد البطيحي برسمه للمرأة، فتراها تحكي في لوحاته كما تحكي في الأدب المسرحي والروائي، لغة منمّقة تختصر واقعا من الأمل والألم. وما أن ينتهي دور البطيحي في الرسم والتشكيل، يبدأ دور المتلقي في قراءته للوحة، وكل حسب إحساسه وذائقته الفنية والثقافية.
المرأة في لوحاته تتشابه مرات وتختلف مرات أخرى، فمع أنه يرسم أكثر من امرأة إلا أنّ النساء عنده قد يتشابهن ويتقاطعن بتفاصيل كثيرة، سواء من حيث الشكل أو من حيث المضمون.
ويقول فناننا الشاب: "كل امرأة أرسمها تمتلك كيانها الخاص وتتفرّد بهويتها الشخصيّة، إنها موجودة في مكان ما ولها قصة ما. لكني لا أعطي أي امرأة حالة واضحة بملامح محددة. كل ما أقوم به أن أدعها تبحث عن ذاتها عند المشاهد".
ويضيف: "أحاول من خلال لوحاتي أن أعبّر عن حالة الوحدة والعزلة التي تعيشها معظم نسائنا، هذه الحالة التي ينكرها واقعنا ومجتمعنا ويتعامل معها وكأنها غير موجودة. أنا كأي شخص أحلّل وأفكّك كل ما هو حولي في الحياة، خاصة إن كان يتعلّق بشخصية أنثى. وأمّا النتائج فتظهر بشكل غير مباشر في العمل الفني، وأترك الحكم للمشاهد الذي تتنوّع آراؤه حسب تجربته الحياتية، الشيء الذي ألمس صداه على أرض الواقع بعد كل عمل جديد أقدّمه للناس".
وفيما يخص التكنيك وأسلوب رسمه لكل لوحة، يقول البطيحي: "بداية أرسم شكلا أنثويا واقعيا وواضحا بحدوده أظهر فيه بعض التفاصيل، ثم تأتي مرحلة هدم الشكل وتحويره، مع إضافة انفعالات لونية تعبّر عن إفرازات مخيّلتي. فأنتهي بتصوير امرأة مثيرة جميلة. وغالبا ما أدمج بين الواقع وشيء من الخيال أو ما أسميه بالذاكرة البصرية، وأحيانا أصل إلى مرحلة تجسيد "المرأة الحلم" في لوحتي".
أعمال طارق البطيحي فيها الكثير من العبثية وتدل على مراحل متقدّمة في الفن الحداثي، أي أنّها خارجة عن القوانين الكلاسيكية والتقليدية.
وعند سؤاله عما إذا كان يعتمد نمطا فنيا محددا أو يسير وفق مدرسة أو منهج، أجاب: "حينما أرسم أصوّر لوحاتي بعفوية تامّة وأتحرر من كل القيود الفنيّة والاجتماعية. لكنّ لوحاتي تميل بتصنيفها نحو الاتجاه التعبيري الذي يعتمد في مفهومه على إخراج الشحنة العاطفية والحسيّة، فتمنحني إمكانية التعبير عن خواطري وخوالجي الداخلية بطريقة عبثية تعتمد على الحالة الآنية التي أعيشها. هكذا هو الفن التعبيري ينبع دائما من الحالة اللحظية التي يمر بها الفنان أثناء رسمه فتعطيه الحريّة المطلقة".
من جهة أخرى تتميّز الألوان في لوحاته بأنها ضاربة وقويّة تجذبك أول ما تنظر إليها، لكنك سرعان ما تغوص في شيء من الكآبة ضمن اللوحة. وهو ما حاولنا أن نجد له تفسيرا عند فناننا الذي وضّح لنا بأنّ تجاربه تتأرجح بين قتامة لونية وأخرى بألوان زاهية ونضرة وأحيانا داخل اللوحة الواحدة قد يجتمع هذا التضاد. وفي النهاية فكل المشاعر التي تنبعث من أي لوحة تتوقف على نظرة المتلقي.
وببساطة يعبّر: "التضاد أو التباين القوي الذي أعتمد عليه في رسوماتي، يأتي من واقعنا الاجتماعي المعاش بما فيه واقع النساء في المجتمع. ولا أنكر أن هذا التضاد يساهم فنيا في إظهار ووضوح الشكل من الناحية التعبيرية، ويساعدني في التركيز على بعض المساحات اللونية في اللوحة بهدف إيصال الفكرة التي أريدها".
في مقاربة الشكل والمضمون في لوحاته يؤكّد البطيحي أنّه لا يحكي عن امرأة معيّنة، ببساطة هي ليست مهمته، فاللوحة بالنسبة له ليست قصة، هي باختصار لحظة مقتبسة من الواقع وتجسيدها عند أي فنان يرجع إلى منهجه وطريقته في الحياة والفن.
ويقول: "أنا ببساطة أصوّر المرأة ضمن حالة شكليّة معيّنة يتدخّل في رسمها مزاجي الانفعالي، وفي مراحل متقدّمة من العمل تصبح المرأة أو الشكل الموجود تفصيلا ثانويا ضمن المساحة البيضاء إذا ما قارنتها بالخط المرسوم أو بعلاقات اللون مع بعضها أو حتى بشكل الجسد المحوّر والمشوّه أحيانا".
لا يهمّ طارق البطيحي أن يقدّم معلومات نفسية واجتماعية عن الأنثى في أعماله، بل يحاول التوصّل إلى فكرة عظيمة يضمّنها في شكل فنيّ يختاره هو. والأنثى بالنسبة له من أكثر ما يحرّض الفنان حتى لو لم يجسّدها ويصوّرها بأعماله بشكل مباشر.