منير مزيد
من يقرأ شعر حسن حجازي قراءة عابرة يظنه بسيطا، وسبب ذلك سلاسة التعابير ورقة المفردات الشعرية التي يستخدمها الشاعر، بالإضافة إلى دقة التصوير والبعد عن التعقيد ومألوفية كثير من العناصر التي تشكل قصائده وأبيات شعره، فهي تخاطب عاطفة ومشاعر وأحاسيس القارئ والمستمع، معتمدا على الايقاع الحركي للمفردات المشحونة بالغضب والشجب حيانا، وبالسخرية حينا آخر والتي تخلقها الفكرة في محاولتها للتأثير على المسارات الاجتماعية فاللغة بفنونها المختلفة طريق التأثر، علم المعقول أو علم المثل في الحس، وأداة لذلك التأثير، وينحصر نجاح الفنان في نتاج محاكاة الأشياء على حقيقتها، وفي هذا يتجلى مجهود الفنان ويؤتي ثماره، على أن المحاكاة الحقيقية لا غنى فيها عن الحقيقة، فليست سوى خطوة للاقتراب من الحقيقة إذا كانت تلك المحاكاة صحيحة.
أما الموضوعات التي يتناولها شاعرنا فكثيرة جدا بحيث يصعب حصرها، فهناك قصائد عن أشخاص يرتبط بهم الشاعر بعلاقات إنسانية واجتماعية، وقصائد رومانسية ومناجاة، وقصائد حب، إلا أن شاعرنا في مجموعته الشعرية "في انتظار الفجر " قد اختار أن يكون صوت الشعب حاملا هموم الوطن والمواطن دون إغفال أهم القضايا التي تواجه الإنسان العربي والتي شكلت هما من الهموم القومية فأثارت قريحته الشعرية، فكانت قضية فلسطين والعراق وهموم الوحدة العربية حاضرة في مجموعته.
يصوغ حسن حجازي شعره من الواقع العربي الراهن المليء بالقهر والجراح عندما يتوحد عنده الألم بين الأقصى والمواطن الفلسطيني والطفل الفلسطيني ويبكي ما وصلنا إليه:
اليوم نهاري حزين
شجر الزيتون حزين
ولدي يفترش الأرض
يسأل عنْ شجر الياسمين
اغتالته أيدي الغاصبين
إلى أن يقول:
لم يعد بالبيت طحين
والحليب لأطفالي الجوعى
جف من ضرع السنين
وأمتي في سبات
تشجب وتسب وتدين!
أما الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذا الوضع المأساوي وحالة العجز والتردي: محاربة الإبداع وقتل المواهب وتفشي ظاهرة النفاق
في بلاد
تأكل فيها الكلاب المواهب
تجيد الرقص على الموائد
ومغازلة السلطان
في بلاد
تجيد نسج الأكفان
تجيد تسفيه الأحلام
لو بقيت لنا أحلام
وتغليب المصالح الفردية على حساب المصلحة الوطنية العليا والاستهتار بحياة وتاريخ ونضال وتضحية الشعب، مستخدما نضال الشعب الفلسطيني كرمز لنضال الشعوب
ماذا تقول يا أبا عباس؟
وأنت أيضا يا أبا هنية؟
ماذا تقولان
لدماء الشهداء
لأصحاب القضية
لأطفال الحجارة
لأصل الحضارة؟
ماذا تقولان
للطين؟
للمساكين؟
لأهل المخيمات؟
لأصدقاء الشتات؟
لدير ياسين؟
لأبطال حطين؟
لشهداء فلسطين؟
للأسرى
للأرامل
للركع
للرضع؟
ماذا تقولان
ويرثي حالنا بحزن سوداوي بلغة "أنا الذاتية" والتي تمثل حالة اللاشعور الفردي والذي هو جماع مكتسبات الإنسان خلال حياته كفرد. فاللاشعور الفردي يحفز عمليات استبصار الذات الغريزية عند مستوى الهو لكي يتم تصوير العملية الأولية باعتبارها عملية لا شعورية تجهل أو ربما تتجاهل حدود الزمن والمكان مستشعرة بمبدأ اللذة والألم فتندفع من خلالها "أنا الذاتية" الموجودة ضمنا تجاه اللذة وتتباعد عن الألم بالتفريغ عن طريق تكوين صورة شعرية.
فانتحر طيري الأخضر
واسودت فى عيني الشمس
بين سكون الرمز
تحت نيران العجز
من خيول الفجاءة
لما عادت بغير بشارة
تجعلني أنتظر الغد!
والإفلات والهروب من الواقع والتمرد عليه واللجوء إلى البحث عن أمل أو فجر جديد حتى لا تنتهي الرغبة غير المشبعة إلى الاحباط.
ويسكن في القلب الهم
إلى أن يأتي اليوم
المتمم لذكرى النصر
لينهي أياما للذل
إلى أن يأتي هذا اليوم
سأكتب في عينيك
أحلى أبيات الشعر
لكن هل يشرق علينا الفجر؟
حتما سيشرق علينا
ألف فجر
وفجر!
فالوطن يستمد قوته من أبنائه الأوفياء الذين يبذلون لأجله الغالي والنفيس وهانت عليهم أرواحهم فداء لوطنهم وذودا عنه في لذة وإقدام وبالتالي هذا هو التعبير الصادق عن حب الوطن ليس بالكلام والخطابات الجوفاء.
هم زرعوا
في الدرب
الورد
هم غرسوا
في الظلمة الغد
هم ضحوا
بأماني
العمر
هم ذهبوا
لنبقى نحن!
ويبقى الهم الوطني بلاده مصر نراه يناجيها يداعبها يلاطفها وأحيانا يسخط عليها ويتمرد عليها، فمصر تتمثل لحسن حجازي الأم والزوجة والابنة والحبيبة والرفيقة حين يقول لها في قصيدته "تحذير":
عودي بالإلهام
يا حسناء الزمان
عودي بالحلم الأخضر
بالقمح الأصفر
بحلم الأشقياء!
وعلى حد علمي القصيدة مكتوبة من الثمانينات كأنه يتنبأ بما يحدث الآن بضمير الابن، بضمير الشاعر، بما تشهده الساحة المصرية والعربية الآن من مشاكل حياتية صعبة تمس المواطن البسيط، فنجده يقول في نفس القصيدة:
حتى الآن
لست منك
ولست مني
فنحن في الحب غريمان
نتلهى بالأيام
نتسمم بالأوهام
في دوران الساعات
في انتحار الأمسيات
بغير لقاء
وحنين الذكريات
يسري في الأعماق
يقتلع منا الجذور
فنمضي بغير جذور
تتقاذفنا الريح
لا ندرى أين!
صحا بقلبي السندباد
أتهيأ للرحيل
فعوديني
وإلا صلبتك
بين دفاتر نسياني!
وكذلك في قصيدته:
"بعد العودة" نراه مهموما بالمشاكل اليومية للمواطن المصري البسيط حين يقول:
كنت عزمت أن أطوي السبعة بحور
لآتيك بسر الورد المؤتلق الحسن
لآتيك باللؤلؤة الأم
لتزين أجمل نحر
تحرس أغلى الثمرات
إن عم الليل
أو غدر الشط
كنت عزمت أن آتيك
بالأقمار السبعة المزروعة وردا
أن آتيك ببقرات يوسف السمان
لترعى حقول الحنطة عند الشط.
نعود هنا للحنطة للقمح لقوت الأشقياء للأيام العجاف التي ندعو الله أن يحفظ مصر منها على الدوام وأن يرسل لها يوسف وألف يوسف.
أين يذهب لا مفر من الهجرة وصلبها بين دفاتر الذكريات كنوع من الهروب من الواقع المرير.
لكن حسن حجازي رغم قنوطه ويأسه يقرر أنه ثمة أمل في غد أفضل كما يبدو ذلك في نهاية قصيدة "من أجل عينيك" حين يقول:
من أجل عينيك
أجوب وادي الصبر
وأحضر لك الفجر
في ليلة حب وردية
تسامرنا فيها النجوم
ويزفنا البدر!
يتمتع حسن حجازي بحاسة رائعة في توظيف التاريخ سواء الإنساني عامة أوالعربي بصفة خاصة، نجده يتقن المعارضة ولكن بشكل جديد، يوظف ما يعرف بـ"نظرية القناع" وذلك عند معارضته لنونية بن زيدون الشهيرة في قصيدته "أكانت تدري" وفي إهدائها لولادة بنت المستكفي، ولم يكتف بالاسم إنما قام بتوظيف رائع للدلالة على البكاء وفضح الحلم العربي الذي تعسر في ولادته والذي تأخر كثيرا:
أكانت تدري
أني والشعر
وزمني المائج
في بحور التسكع
أني سأكتب عنها
أكانت تدري؟
أكانت تدري
والقابلة
وولادة مسخ أسود
يقتل في الرضيع حلما
كان سيولد
يحمل معه سيفا للنصر
أو للتذكار !
ثم حرفية الاقتباس والتوظيف الواعي للتراث الشعري:
أكانت تدري
ولادة بنت المستكفي
وقد "أضْحى التّنائي بديْلا منْ تدانيْنا"
أننا لأجلها عشقنا "لوركا "
و "دون كيشوت "
وغرناطة
وحلبات الثيران الدامية
حبا فيها
وننتظر معها حلما عربيا
يجمع شتات أمة صابرة
على شط النيل
ما كانت أبدا صاغرة
وقد "جاوز الظالمون المدى"
ولكن "سيشرق الفجر على أمة
لغير وجه الله لم تسجد"!
ثم اللعب على الرمزية في قصيدة "حورس" بين الواقع والحلم يندد فيها بالظلم الذي تعرض له الإنسان المصري من فجر التاريخ من بناء الأهرام للملوك لتوريد ما توجد به أرضه لسكان القصر ثم لحفر القناة قناة السويس بدمه وعرقه. ثم بعد تحرير سيناء وبزوغ نجم الانفتاح الاقتصادي ومعاناة المواطن المصري البسيط وعبر القصيدة يرمز للحلم المصري بـ"حورس".
القصيدة كتبها حسن حجازي أوائل الثمانينات فكأنه مثل بقية الشباب المصري الذين كانوا يراهنون على الزعيم محمد حسني مبارك ومازالوا مؤمنين به حيث عادت وقتها الأرض وبدأت مصر تجني ثمار النصر وعودة سيناء فربط بين مصر مبارك ومصر حورس في توظيف جيد للأسطورة المصرية فنجد "إيزيس" تجوب الوادي ونجد "ست" إله الشر " ونجد "أوزوريس" ليربط فجأة بين الواقع المر في بداية الثمانينات ورجال الأعمال الذين تفنن بعضهم في كسب الأموال وامتصاص دم الشعب المصري الذي لم يكد يفيق من آثار الحرب التي تحملها في شجاعة وصبر وإخلاص:
خمسة آلاف عام
بنيت الأهرام على كتفي
حجرا حجرا
نحت الصخر
قتلت الصبر
تخطيت المحال
الهرم الأكبر
يا أكبر شاهد ظلم للإنسان
الهرم الأكبر
كفاك عبثا واخرج مرة
تابوتا من أبناء الشعب
قد خلد
الهرم الأكبر
يا مأساة التاريخ
يأتيك العالم يسعى
ما يدرى أنك تحوي
أطنان الدم
وجبال الهم
أيها العالم
عندما تأتيني فلتبكي!
عندما نجده يقول في مرارة:
عادت أرض الفيروز
ورحل عنا الهكسوس
لكن الوادي منهك بعد الحرب
يئن تحت نخير السوس
اليوم عدوي مني
من بيتي
تربى داخل بيتي
لا يمتص إلا الدم
الدم القاني من أطفالي
وفى المساء يشاركني صلاتي!
وبعد هذا المرور العابر في شعر حسن حجازي أحسب أن ما أقدمه هنا هو بداية للغوص في خضم هذا العالم الشعري والصوت العربي الأصيل الذي أعتبره نموذجا للشاعر العربي الملتزم الواعي بواقع أمته وشعبه ودينه.
والشاعر الحق ضمير الأمة وصوتها فهو الذي يعيش حياته وسط الناس والأحداث فيتفاعل مع الناس والأحداث، ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم، تطلعاتهم وطموحاتهم، ويبث الأمل في النفوس إزاء المصائب بالكلمة الشعرية التي تخاطب الروح والوجدان. وحسن حجازي في مجموعته الشعرية "في انتظار الفجر" أراد أن يكون شاهدا وراصدا للأحداث، محبا لوطنيته ومعتزا بتاريخنا العربي المجيد:
لا تسلني عن صلاح الدين
ولا تسلني عن حطين
قبل أن تصبح أنت
وأصبح أنا
صلاح الدين
بعدها فقط يمكننا أن
نصلي معا
في فلسطين
ونعيد أمجاد حطين
وختاما نقول: الشعر، حقا، كان ولم يزل هو ديوان العرب!