من قضايا التصور الاستراتيجي : العدالة والأصالة والاستقلال وهلم جرا
عبد الرحمن القاسمي
يشكل التصور الاستراتيجي والممارسات التكتيكية بالنسبة للعمل السياسي،أهمية كبيرة تتصل بقدرة العمل على تأدية مهماته وأهدافه المتوخاة منه في تأطير الجماهير في الاتجاه الصحيح.وتعكس الاستراتيجية الصائبة والتكتيك البارع المرتبط بها،امكانية جد مميزة في قيادة وتوجيه العمل النضالي بصورة صحيحة.وكما يتلازم التكتيك بالاستراتيجية ويكون في خدمة أهدافه،لاتنفصل الاستراتيجية عن الاطار الاديولوجي الذي يمثل السيرورة التاريخية الدائمة.
فالواقع دائما يتغير لأن حركته لاتتوقف،هذه حقيقة تبدو بوضوح في كل مكان وزمان.والفعل السياسي البناء المولد للتطور نحو الأفضل والأرقى ليس أمامه سوى تحديد الممكنات وربطها بالطموح الأبعد من الأهداف،بعيدا عن "الشطحات" والخرجات الاعلامية الجوفاء وغير الموفقة.على ذلك فالسياسة وعي واقتدار على الفعل بالواقع وتحريكه دون مزايدات وصلت أحيانا الى حد توظيف لغة غير بريئة،أقل ما يمكن القول عنها أنها "زنقاوية"من جهة،وخرجات لأطراف أخرى يشم فيها المواطن المستضعف ريحة " السلطوية" من جهة ثانية.ما هكذا يكون الفعل السياسي البناء الذي يلبي طموحات الجماهير العريضة.فالمزايدات بهذا الشكل تعني التخطي الجاهل للشروط الواجبة لدفع الوقائع كما يجب،عندها يكون التصور فوق التصرف أو التصرف خلف التصور وفي كلتا الحالتين تكون النتائج بعيدة عن متطلبات الجماهير العريضة.
ان الصراع بين أطياف سياسية ذات اديولوجيات متباينة،مسألة عادية بل هي مطلوبة شريطة أن تضع مصلحة الوطن والمواطنين فوق كل اعتبار.لكن المتتبع للشأن السياسي المغربي وبكل صراحة يكاد يصاب بالتقزز للمستوى الذي هو عليه.فالصراع الخفي والشرس بين حزب الأصالة والمعاصرة من جهة وحزب الاستقلال من جهة ثانية،أفضى الى خلق أزمة ( أزمة أكديم ازيك ) خرجت عن السيطرة فهزت الشعور العام للمغاربة لبشاعة ما حدث فيها.والحق يقال أن محاولة الاستقلاليين الاستنجاد بالملك محمد السادس لدى عالي الهمة يعبر عن مدى تخوف و امتعاظ قيادة حزب الاستقلال من الوافد الجديد الذي عليه أن يدرك أن لا ارادة فوق ارادة الشعب.والى جانب حزب الاستقلال خرجت أصوات في مناسبات عدة نددت (وبأسلوب مشين) بممارسات "البام"،وأقصد حزب العدالة والتنمية في شخص أمينه العام بنكيران الذي ان استمر في "شطحاته" وصرخاته لاشك سيفقد للحزب الكثير من مقومات قوته الشعبية.فالمرونة في العمل السياسي مطلوبة ( وفق في ذلك سعد الدين العثماني)، بل وواجبة وما أقصد بها مرونة الأسلوب وليس مرونة المبدأ.بهذا وحده نجعل منها صيغة مشروعة ونبعدها من أن تكون مزاجا يحركه الهوى.ان المرونة حين تبدو ضرورة من ضرورات العمل السياسي فانها يجب أن ترتبط أساسا بالتصور المبدئي وبمصالح الجماهير.
قصة قصيرة قد تعكس - والله أعلم - صورة ما يحدث من "فوضى" حزبية. قال ذئب لخروف هلا شرفت بيتنا بزيارة؟فأجابه الخروف : ياليت بيتك لم يكن في معدتك. ان الخطأ الكبير الذي يمكن أن ينساق اليه البعض في أمور كهذه أن يكون التصور،أن السلطة هي التي تشكل منطق الحقائق.فالحقائق دائما تلد حقائق أو لنقل تعقبها حقائق ،فحقيقة جاذبية الأرض تليها حقيقة سقوط الأشياء وفق قانون التعجيل الأرضي.لأجل ذلك،ثمة مسألة أساسية ترتبط بالعمل السياسي وهي أن تحديد الموقف الواضح يقود لامحالة الى كسب المؤيدين لوجهة النظر المرتبطة بهذا العمل أو النتائج التي يستهدفها.فمسألة الوضوح في الموقف المعلن والذي تجسده الممارسة المجتمعية المباشرة،اذ تعكس أهمية بالغة في ميدان العلاقة بين الحركة السياسية وعملها على كافة المستويات وبين الجماهير، لابد أن ترتكز الى نهج نضالي يحدد الهدف المطلوب بكل دقة ومن منظار مبدئي لايناور في توضيح الحقائق.
وهذه الناحية بمقدار ماهي ضرورية للعمل السياسي ومستلزمات تقدمه،فانها لاتنطلق من مواقع مثالية لأن ذلك يقود الى تخبط هذا العمل ومن ثم خسارته الأكيدة.فالوضوح في الموقف هو اخلاص للحقيقة وتعبير عن الثقة العالية بالنفس والجماهير المرتبطة به،وهو بهذا المعنى لايمكن أن يستهدف كسب الجميع لأن الموقف الواضح يؤدي بالضرورة الى فرز سياسي واجتماعي تتطابق قواه أو تتناقض مع الموقف انطلاقا من مصالحها وتصوراتها. وبالتأكيد ان الوضوح في الموقف يجب أن يعبر عن مصلحة الجماهير وأن يروم الى توضيح الحقائق لها بهدف وضعها في صلب مسؤولياتها التاريخية.
ان الواقع الاجتماعي واقع متحرك،فشباب تونس ومصر ضربوا عرض الحائط الأحزاب السياسية.فالمضاف من التجربة يدفع بالدليل النظري للأحزاب السياسية أن يكون حيا وذا قدرة فاعلة في التقاط القوانين العلمية التي تكشف عن التناقضات الاجتماعية، ومن ثمة استقراء وتحليل فتعيين الخطط العملية القمينة بايجاد حلول مناسبة لها وبدون تماطل لتزكية الفعل السياسي البناء، واسقاط المزايدات الضيقة والانتخاباوية على حساب قضايا الوطن والمواطنين.فالحساب الانتهازي لايمكن أن يكون له رصيد في الواقع في نهاية المطاف،وهو لابد وأن يفيق على حالة يكتشف فيها بعد فوات الأوان عجزه،ومثل هذا الحساب فانه مهما يحقق من نجاحات ظرفية فانها لاتعدو غير ضربة حظ ،لأن كسب الخداع تماما ككسب المغامرة.
وعلى ذلك يكون توضيح الهدف والمواقف،سياسة مبدئية فضلا عما تضمنه من نتائج هامة.فالوضوح اذ يضمن بذلك كسب القواعد المنخرطين وغير المنتمين لألوان حزبية،فانه يساهم في تعاظم دور القيادة الحزبية في قيادة النضال السياسي،والتي من المفروض أن تنتبه الى الأمور الاتية:
- اطلاع الشبيبة الحزبية وكافة المنخرطين وعامة الجماهير بالحقائق وتزويدهم بالمعلومات وتمكينهم من تأدية دورهم الكامل دون اقصاء ممنهج.
- الابتعاد عن المواقف المتذبذبة وحسم الأمور من زاوية مسؤولة وواقعية،وهذا يتطلب الاتصال مع وسط المخططين والمفكرين المرتبطين بشكل مباشر بالمجتمع.
- الابتعاد عن القرارات الأحادية الجانب،بالانصات لأصوات الأعضاء وتبني المعالجة التشاركية لمختلف الملفات.
- الاتصال الحي والمستدام بين القوى المركزية للأحزاب السياسية وعامة الشعب.هذا الاتصال مع اشتراطاته المبدئية والأثار الايجابية التي يعكسها لصالح العمل الحزبي،يحقق عملية المواقف لأنه ينطلق من التقدير الواقعي للأمور.
وفي الأخير أقول ان مايهدد ويميع المشهد السياسي ويولد حركة نفور جماعي،هو تلك البرامج المسطرة على الورق والتي تردد في شكل شعارات فضفاضة خطابيا وغير المرفقة بالعمل على مستوى الممارسة،ناهيك عن روح الانتهازية العملية المنافية لجوهر المبادئ والقيم في تغليب المصلحة الخاصة على مصلحة الوطن العامة.