اليابان، المغرب الكبير: هزات متعددة وارتدادات متباينة
عبد الرحمن القاسمي
لطالما شكلت النهضة اليابانية،من منظور عدة متتبعين،تجربة رائدة في إقامة التوازن بين التراث والمعاصرة بين الأنا والأخر.والى وقتنا الراهن ونحن نعيش على هبات وانتفاضات شعبية في بلدان المغرب الكبير،مازال تقييم هذه التجربة موضوع اهتمام عدد من الباحثين بما فيهم العرب.فنحن أمام ما يمكن أن نسميه "بالمعجزة اليابانية"،بيد أن كلمة المعجزة مبالغ فيها (تخص الأنبياء) ولكن إجرائيا المقصود بها انجاز تاريخي غير مسبوق.
ولاغرو فاليابان كما هو الحال بالنسبة للبلدان المغاربية والعربية الإسلامية الأخرى تتعرض بين الفينة والأخرى لهزات قوية ذات ارتدادات متابينة على الصعيد الداخلي،أو على المستوى الدولي في اطار ما يسمى بالمجال العالمي.وحتى تتضح الصورة أكثر أمهد ببعض المعطيات الداعمة،والتي تكتسي دلالات عميقة لأي وعي معقلن يروم الخروج باستنتاج موضوعي للتناقض الذي يميز الممارسة المجتمعية لليابان عنه بالدول المغاربية والاسلامية الأخرى.
تجدر الاشارة الى أن اليابان عبارة عن أرخبيل (مجموعة من الجزر) %85 من أراضيها عبارة عن جبال (تضاريس غير مساعدة لقيام نشاط زراعي).كما أنها تفتقر الى المواد المعدنية والطاقية (بترول وغاز طبيعي...)،ناهيك عن تعرضها لأعاصير قوية كل سنة.بالمقابل المغرب الكبير خاصة والدول العربية والاسلامية بصفة عامة تتوفر على سهول خصبة وشبكة هيدروغرافية مهمة (خاصة بالمغرب الكبير) وثروات طاقية كبيرة (بترول وغاز طبيعي) ومعدنية متنوعة (فوسفاط،حديد،فضة...) ناهيك عن الموارد البشرية الشابة.
يتضح من خلال المعطيات السابقة أن الوسط الطبيعي لليابان يبقى فقيرا ومعاكسا تماما للاستغلال وتحقيق التنمية فالنهضة الشاملة،عكس ما يقدمه الوسط الطبيعي للمغرب الكبير من امكانيات جد مميزة في اطار ما يمكن أن نسميه بالتكامل الاقتصادي في شقه الجهوي على الأقل.وللقول فاليابان تهزها الزلازل(حوالي 5000هزة في السنة) وهي تهز العالم باقتصادها القوي،وحسبنا انها أحد الأقطاب الاقتصادية الثلاثة الكبرى في العالم.لقد استطاعت أن تحجز لها مكانا بين أقوى الدول في العالم رغم ظروفها الطبيعية الصعبة ورغم قلة مواردها المعدنية والطاقية.وللاشارة فقط فالنمو الاقتصادي السريع لليابان فرض عليها التوسع على حساب البحر لتعويض النقص في المجال الضروري للتوسع الصناعي والحضري،فقد تم اكتساح حوالي 1100كلمتر مربع من الاراضي الجديدة على حساب البحر لاقامة مطارات ومصانع عائمة فوق البحر.
واذا كانت اليابان تهزها الزلازل الطبيعية وهي تهز العالم باقتصادها القوي المتين المبني على استيراد المواد الخام وتصنيعها وفق خطط وأسس علمية محكمة الدقة،فان المغرب الكبير والدول العربية الأخرى تهزها الزلازل والانفجارات ذات الصبغة البشرية في شكل انتحارات وهبات وانتفاضات شعبية متابينة من حيت الحدة والحجم حسب البلد فهزت العالم معها كذلك.ففي الجزائر وعلى فترات متباينة انطلقت شرارة انتفاضات،فمن تحركات ذات صبغة سياسية كما حدث ويحدث في منطقة القبائل وحاضرتها تيزوزو الى منطقة ديار الشمس والمواجهات العنيفة التي دارت رحاها بين قوى الامن الجزائري وشباب ونساء المنطقة،وصلت الى حد التهديد بالانتحار الجماعي ل 17 أسرة إذا رفضت السلطات الاستجابة لمطالبها الاجتماعية المتمثّلة في توزيع عادل للشقق التي ستُرحّل إليها واذا لم تضع حد لما تسميه التلاعب بعملية الترحيل. أيام قليلة بعد ذلك تحرك الشارع الجزائري هذه المرة من منطقة باب الوادي الى تيبازة والبليدة فعنابة...احتجاجا على غلاء أسعار المواد الأساسية.نفس القول ينسحب على تونس ومظاهرات سيدي بوزيد الحاشدة والتي هزت الشعور العام للقوى الحية بعملية حرق للذات كشكل احتجاجي خطير من قبل أحد شباب تونس العاطل عن العمل وغيره كثر.
على أن أهم ما ميز سنة 2010 بالمغرب هو الشكل الاحتجاجي الخطير لمدينة العيون والذي اتخد صبغة مطالب اجتماعية تطورت بوتيرة سريعة - بعد دخول عناصر انفصالية على الخط – لمطالب سياسية،الا أن ما يحز في النفس تورط أبناء البلد في منصب المسؤولية في هذه الأزمة،فمسيرة تنغير.لقد سبق وأن أشرت في سياق مقال بعنوان " من قضايا التصور الاستراتيجي:الاحزاب السياسية والموقف الواضح" أن الواقع الاجتماعي واقع متحرك وهذا ما يتطلب من الدليل النظري للاحزاب السياسية أن يكون حيا وذا قدرة فاعلة في التقاط القوانين العلمية التي تكشف عن التناقضات الاجتماعية، ومن ثمة استقراء وتحليل فتعيين الخطط العملية القمينة بايجاد حلول مناسبة لها وبدون تماطل لتزكية الفعل السياسي البناء، واسقاط المزايدات الضيقة والانتخاباوية على حساب قضايا الوطن والمواطنين.فالحساب الانتهازي لايمكن أن يكون له رصيد في الواقع في نهاية المطاف،وهو لابد وأن يفيق على حالة يكتشف فيها بعد فوات الاوان عجزه،ومثل هذا الحساب فانه مهما يحقق من نجاحات ظرفية فانها لاتعدو غير ضربة حظ ،لان كسب الخداع تماما ككسب المغامرة. وفي مصر خرج الأقباط المسيحيون في مظاهرات كبيرة احتجاجا على تهميشهم و استهدافهم في عمليات متعددة اخرها تفجير كنيسة القديسين بالاسكندرية. وهلم جرا ...
وشتان ما بين طبيعة هزات وارتدادات اليابان وهبات وتداعيات البلدان العربية والاسلامية.فأين يكمن السر بغض النظر عن تباين الأنظمة السياسية من حيث الاديولوجية وهامش الديمقراطية والاقصاء ؟؟
الغالب على الظن أن السر يكمن في ارادة الانسان الياباني،فقد تمكن من نقل ما لدى شعوب الغرب من علوم مختلفة ونجح في تقليدها بل أبدع في تطويرها للأحسن (للاشارة استقبل اليابان خبراء غربيون في مجالات متنوعة،استفاد منهم شكرهم فتخلى عنهم في مرحلة لاحقة).فعقلية الياباني تختلف جوهريا عن عقلية الانسان العربي والمسلم بصفة عامة،فالأول يعتبر الراحة والنوم شيئا معيبا لذلك تجده في غاية الجد والنشاط كما تجد أن اجازته السنوية شبه معدومة.ناهيك عن شعوره الدائم بالرقابة الذاتية فلا يحتال أو يتخاذل لتوفير المادة أو الوقت،وبالمثل يتقن العمل الجماعي بعيدا عن رغبة الظهور أو التسلق على الاخرين.وهكذا تحدى الياباني ظروف الطبيعة فأبدع وصنع وغزى العالم،بينما بقي الانسان العربي والمسلم للأسف صاحب الثروات الطاقية والمعدنية مجرد مستهلك يصدر المواد الخام وينتظر المصنع(بضم الميم)، لكل ذلك فهو يعاني التاخر في شتى الميادين.
وفي الأخير أقول أن اليابان استطاعت في غضون فترة قصيرة غير مسبوقة (فقط 44 سنة) أن تتحول من دولة تعاني من وضعية تأخر الواقع التاريخي وذات بنيات اجتماعية واقتصادية متناهكة متداعية السقوط،الى وضعية دولة مركزية قوية ذات اقتصاد قائم على أسس ليبرالية.فاليابان تعطي مثلا حيا وترجمة عالمية وتطبيقا واقعيا لما يمكن أن نسميه بثورة من أعلى،فاستطاعت التوفيق بين تلك المعادلة الصعبة التي فشلت فيها لحد الساعة البلدان المغاربية والعربية الأخرى (التوفبق بين الأصالة والمعاصرة).هذه الدول التي تعاني من التأخر ممكن اقتداءا بالتجربة اليابانية تلطيف الام مخاض ولادتها.