د. لطفي السنوسي
يبدو أن المتآمرين من رؤوس الفتنة قد رسخوا أقدامهم في تونس بعدما تبين لهم أن الأرضية صارت خصبة لزرع بذور الانقسام والتناحر، ولست أعجب من ذلك فأجدادنا سقطوا ضحية هذه الفتن التي مزقت أواصر الدولة وحولت سيوف الفاتحين إلى سيوف قتلة وقلوب المتحابين إلى قلوب يملؤها الشك والبغضاء، ولعل ما يجمع كل هذه المؤامرات والدسائس عبر التاريخ أنها تبنى على أعقاب ولادة دولة يراد منها أن تكون دولة كل الناس، دولة يكون فيها للحرية مكان لا يحدد معالمها سوى أبنائها، دولة يؤمن من قام على رأسها بأن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة.
اليوم في تونس صرنا نسمع عن المسلم وغير المسلم، عن السني والشيعي، عن السلفي والمعتدل!! اليوم في تونس يتم الاعتداء على المقدسات الوطنية والدينية، على المثقفين والمفكرين، وكل ذلك يحدث تحت عناوين عدة مختلف ألوانها، بيد أن المشكاة واحدة، والسؤال الملح في نظري هو ما مدى التصاق ما يحدث بالمشهد السياسي الذي عاشته وتعيشه البلاد عقب الانتخابات؟
إن التزامن الغريب بين تصاعد وتيرة التوتر بين الفرقاء السياسيين وبين ما يحدث من عملية تغذية للخلافات الأيديولوجية وربما العقائدية يجعلني مضطرا للالتجاء إلى مقاربة ما نحن عليه بما حدث عبر تاريخنا المليء بمثل هذه المؤامرات التي يراد منها إسقاط الدولة، ومنها الانقلاب على الشرعية بدعوى نصرة الحق على الباطل، أو بدعوى نصرة الإيمان على الكفر، وهي لعمري أشد وطأة على مستقبل بلد يصبو لبناء دولة أساسها العدل ليس فيها أي مقدس سوى ما اتفق عليه الشعب وصدقته الكتب السماوية بما تحمله من سماحة ودعوة للتعايش ونبذ للعنف والكراهية والإقصاء.
إن الشعب التونسي وحكومته بكراسيها الثلاثة تعيش اليوم امتحانا تاريخيا عسيرا وغير مسبوق قد يفضي في حالة السقوط إلى التخندق المزمن في الصراعات المتواصلة والمستديمة، إن لم نستوعب الدرس ما دام ذلك لا يزال ممكنا، وهذه مسؤولية كل من يريد أن يكتب في سجله كلمات قد تجمع ولا تفرق، كلمات ملؤها التعقل والتبصر حتى لا يكون الضحية الأجيال التي تلينا من أبنائنا.
فاليوم في تونس هنالك حكام ونواب منتخبون أوصلتهم صناديق الاقتراع إلى كراسيهم كي يحققوا حلم أبناء شعبهم في العيش بكرامة، ومسؤوليتهم تزداد يوما بعد يوم في إخراج البلاد من عنق الزجاجة، ولن يكون ذلك في ظل هذه الأجواء المشحونة والمثقلة بأجندات سياسية وحزبية ضيقة يراد منها تضليل الشعب عن أولوياته في هذه المرحلة الحرجة التي تبدو للكثيرين أكثر قتامة وأكثر اضطرابا.
وقد أصبحت اليوم متيقنا بأن الحكومة تعيش حالة تخبط بين ما ينتظرها من ملفات عالقة وبين الخوف على مستقبلها السياسي خصوصا وأن صورتها قد تزعزعت أمام الكثيرين ممن انتخبوها بعدما أبدت تراخيا وتباطؤا وارتباكا في التعاطي مع بعض الملفات التي شغلت الرأي العام مما جعل مصداقيتها في الميزان؛ ولعل هذه النتيجة كانت مبرمجة من طرف خصومها الذين ما فتئوا يغذون الصراعات ذات الطابع الأيديولوجي والعقائدي بالذات حتى يصل الأمر إلى الاصطدام المباشر بين الحكومة، بشقها النهضوي واليساري، وبين من هم محسوبون على التيار الإسلامي بكل مكوناته، فبعد أن تم الاعتداء على العلم التونسي على يد أحد المحسوبين على التيار السلفي وما أثارته هذه الحادثة من ضجة إعلامية ومن غضب على مستوى الشارع نرى أن اعتداء سافرا على المصحف الشريف تلاه مباشرة، وذلك بتمزيقه وإلقائه في دورة المياه، بالإضافة إلى تدنيس عدد من المساجد، لننتظر طبعا بعد ذلك أي رد للشارع وللحكومة بكراسيها الثلاثة سيكون ليبني الذين في قلوبهم مرض ما شاء لهم أن يبنوا من تحليلات وتقييمات تكون فتيلا لصراع جديد يملأ شوارعنا ووسائطنا الإعلامية.
ألم يئن للذين يعقلون أن يسألوا: من وراء هذا؟ أليس حريا بنخبة هذا الشعب وعقلائها أن تجعل من نفسها في الصف الأول لا في مؤخرته؟ كيف لنا أن ننجر وراء من يريدون بث الفتنة ودفع البلاد إلى الانقسام والصراع حول مسائل اجتمع عليها الشعب زمن الاستبداد؛ فكيف اليوم بعدما تحررنا من قيود الدكتاتورية؟
انقلبت الصورة اليوم ونحن نرى الذين انتظرنا منهم الرأي ينساقون بقصد أو بدون قصد وراء قضايا ندرك جيدا من أوجدها ومكنها ونفخ في صورتها وأحسن ضبط إيقاعها كي تحتل المكان الأكبر بيننا، ولن يظل الضمير مستترا طويلا فالتاريخ علمنا أن دعاة الفتنة وفقهاءها هم قلة، بل وربما من الممكن عدهم على الأصابع، وأعترف كمتابع للشأن السياسي الراهن أن هؤلاء نجحوا في أولى مراحل بث الفتنة بأن بدأوا في تقسيم المجتمع إلى فئتين: فئة ضالة وفئة على حق!! وللضلالة ها هنا فلسفة تحكمها الصراعات السياسية والتكتلات.
ولأنني على قناعة تامة بأن هذه الوضعية هي ذات جذور خبيثة ترجع إلى من كانوا متمعشين في عهد بن علي وساءهم دخول البلاد إلى مرحلة البناء الجاد، ولم يبق لديهم سوى بث الفوضى سلاحا، فإني أؤمن بأن معالجتها وحلولها يجب أن تكون ذات طابع توافقي تلتف حولها كل القوى السياسية والفكرية التي درجت على كيل التهم لبعضها بالتبعية والعمالة الخارجية، وهذا كفيل بإقصاء كل من لا يريد من هذه البلاد سوى أن يحكمها لا أن يخدمها بفكره وساعده والذي يصر على مواقفه المتشنجة الرافضة لأي حلول عادلة ومعتدلة حيال هذه القضايا الشائكة والتمادي في الخطاب الذي يزيد الوضع احتقانا وتوترا إلى درجة إضعاف المجتمع وتمزيق أواصره.
,