بيداغوجيا الإدماج : ثانيا- التعريف ببيداغوجيا الإدماج في خطوطها العريضة.
يقتضي مدخل الكفايات في المجال المدرسي وحسب زاوية النظر التي أسست لها مجموعة لوفان برئاسة كزافيي روجييرس Xavier ROEGIERS وعضوية جان ماري دوكطيل Jean-Marie DE KETELE وفرانسوا ماري جيرارFrançois-Marie GERARD وغيرهم...والتي سميت ببيداغوجيا الإدماج ، نقول يقتضي هذا المدخل ، دمج المعلومات (المعرفة) والمهارات والإجراءات ( معرفة-الفعل) والاتجاهات والقيم (معرفة-الوجود) التي يكتسبها التلميذ ، وتوظيفها في محيطه الاجتماعي. ولتحقيق ذلك ، فإن المدرس (والمدرسة بشكل عام ) يختار ويحدد الكفايات التي على كل تلميذ اكتسابها في نهاية سلك او سنة دراسية ،وفي كل مادة دراسية مثل اللغة والعلوم والرياضيات ...ثم يحدد بعد ذلك ،ما على التلميذ اكتسابه من معارف وعمليات (مهارات) واتجاهات وقيم .فتكون الكفايات هي المنطلق وهي في نهاية المطاف ، الهدف النهائي من التدريس ،أي محصلة العملية التعليمية.
لذلك فمن الهام جدا بالنسبة للمدرس من وجهة النظر هذه ، أن يبين للتلميذ أوجه الفائدة من المعلومات التي يتعلمها ومغزاها وأهميتها و تطبيقاتها في حياته...لغاية جعله أكثر استعدادا وأكثر قابلية للتعلم ولغاية خلق لديه ما يكفي من المحفزات للاهتمام بموضوع التعلم .لأن القاعدة الذهبية على ما يبدو في بيداغوجيا الإدماج، هي أنه وكما يقول روجييرس ( الذي "ربحت" مقاولته صفقة إدخال هذه البيداغوجيا إلى بلادنا): "لا أحد يتعلم فقط من أجل التعلم، ولا أحد يتعلم لذات التعلم".إن التعلم يتضمن بالضرورة قيمة دافعة ومحفزة عندما يكون مفيدا للمتعلم في حياته اليومية .
* * *
وهكذا وفي مدخل الكفايات كما هو معلوم ، يكون من الأساسي إدراج أنشطة ديداكتيكية تتطلب من التلميذ مواجهة مستمرة لوضعيات بسيطة أو مركبة ، تجبره على البحث عن الحلول وإيجاد إمكانيات واختيارات وآفاق جديدة أمام المشكلات التي عادة ما تواجهه في حياته اليومية. وهذه من الحقائق التربوية البديهية و المعروفة والمعمول بها لدى مختلف المدارس البيداغوجية منذ القدم.
ولتوضيح ما نحن بصدده ، نقدم الأمثلة التالية والتي اقتبسناها من أدبيات بيداغوجيا الإدماج:
فإذا أردنا في مواد اللغة والآداب ، أن يكون التلميذ قادرا على إنجاز تحليل نص أدبي على سبيل المثال ،فإننا كمدرسين لابد أن نتأكد من كونه :
أولا : يعرف أنماط التحليل الممكنة ونوع النص المقصود والسياق الاجتماعي والتاريخي لهذا النص المكتوب وصاحبه وأسلوبه والحقبة التي ينتمي إليها ...ولأجل ذلك لابد أن يكون قد اكتسب جملة أو عدة من المعلومات (المعرفة) الضرورية .
ثانيا :أن يكون التلميذ متمكنا من مختلف استراتيجيات التحليل وخطواتها والخطوة الملائمة لما هو مطلوب منه ...الخ .ولأجل ذلك لابد أن يتمكن من الإجراءات الضرورية (معرفة- الفعل).
ثالثا :أن يقيم التلميذ النص ويشعر بلذة في قراءته وتحليله ، و يتماهى مع المؤلف ...ولأجل ذلك عليه ان يستدخل اتجاهات نحو محتويات النص ونحو المؤلف (معرفة -الوجود).
وإذا أردنا في مادة الرياضات كذلك ،أن يقدر التلميذ على سبيل المثال ،على حل وضعية مشكلة أو مسألة ، تتطلب استعمال الجبر ،فإننا كمدرسين علينا أن نتأكد من أن التلميذ:
أولا: يعرف العناصر الأساسية في الجبر التي يحتاجها لحل المعادلات من مثل القيام بالعمليات بأحادي الحدود ومتعددي الحدود ...وخصائصها وقواعد الرموز ...وحتى ينجزها عليه أن يكون قد اكتسب معلومات بتلك العناصر (المعرفة).
ثانيا : يتمكن من استخدام اللوغاريتمات الضرورية وتوظيف مختلف مراحل وخطوات الانجاز ...ولأجل ذلك لابد من أن يكون قد اكتسب مهارات عملية إجرائية .
ثالثا :أن يكون التلميذ منظما وحذرا في إنجازه للعمليات ويختبر مختلف الإجابات المحصلة و الحلول الممكنة . ولأجل ذلك يجب أن يكون قد تمثل اتجاهات نحو مختلف المحتويات .
ويتساءل كزافيي روجييرس ، ماذا يعني أن يكون عامل ميكانيكي كفؤا ؟ ويجيب :
- يعني ذلك أن يكون قد اكتسب معلومات في الميكانيكا ويعرف أسماء قطع وأجزاء المحرك وكيفية تركيبها ...(المعرفة).
- أن تكون له معرفة عملية (معرفة- الفعل) ،أي أن يعرف كيف يستعمل أدواته وكيفية تغيير إطار وتبديل الفرامل (الفرانات)...
- وأن تكون له معرفة- الوجود المهنية ، بما تقتضيه من رضا الزبناء وثقتهم فيه ،نظرا لبشاشته وحسن طالعه وسرعته في الانجاز وأمانته ...
- ولكن وأساسا لأنه جرب وصادف مختلف الوضعيات المهنية ويعرف كيفية مواجهتها من حيث ردود الفعل ، وحل ما تطرحه تلك الوضعيات من مشكلات.
وانطلاقا من هذه الحقائق والأمثلة تكون الكفاية هي معرفة عملية ، معرفة مطبقة .إن الكفاية ليست مجرد معرفة لما سننجزه فالمعرفة لا تكفي ،إذ لا بد من معرفة ما سننجزه وإنجازه بالفعل .إن الكفاية هي أكثر من المعرفة إنها المعرفة لكن لغاية الفعل والعمل.
كما أن تقويم الكفايات ينبغي أن يخضع لتعليم يتمحور ليس فقط على معرفة الفعل ولكن وقبل كل شيء على الفعل ذاته .كما لا تكفي معرفة الخطوات والإجراءات لمواجهة موقف (وضعية) أو لحل مشكلة ،بل الأساسي أن يقوم التلميذ بالتطبيق والتنفيذ في ذلك الموقف .فأن أكون كفؤا في مجال ما ، يتضمن أن أطبق على الوجه المطلوب ،عملا أو مهمة مركبة .
إن بيداغوجيا الإدماج والتي انطلقت منذ نشأتها الأولى كمدخل للتعليم بالكفايات الأساسية ، تسعى لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسة :
1- التركيز على الكفايات التي على التلميذ أن يتحكم فيها في نهاية السنة الدراسية وفي نهاية مرحلة التعليم الإجباري ،أكثر من التركيز على ما ينبغي للمدرس أن يدرسه وهذا مبدأ من المبادئ الأساسية التي تستند عليها بيداغوجيا الأهداف والتي ليست بيداغوجيا الإدماج في نظرنا ، سوى امتداد مغلف لها.
2- إضفاء معنى على التعلمات (وهذا ليس بالأمر الجديد في التربية) بحيث نبين للتلميذ وجه الفائدة من كل ما يتعلمه في المدرسة.و لأجل ذلك لابد أن تتجاوز البرامج التعليمية ، لوائح المحتويات.لأنه إذا بقيت المعارف والمهارات عارية من أي معنى ،فإنها تحدث مللا لدى التلميذ وتضعف حافزيته نحو التعلم .وعلى العكس من ذلك ، فإن مدخل الكفايات يلزم التلميذ موضعة وباستمرار، التعلمات في وضعيات ذات مغزى بالنسبة إليه وتوظيف ما تعلمه في هذه الوضعيات .ولا باس أن نذكر بأن أقطاب البيداغوجيا الحديثة بدءا من روسو ومرورا بمنتسوري و دكرولي إلى ديوي ثم بعده فريري وغيرهم ، سبقوا إلى تأكيد هذه المبادئ التي تربط في تربية الأطفال ، بين الفكر والعمل وبين النجاح و الحافزية التي تتغذى من مدى إضفاء المعاني على كل ما يتعلمه الإنسان.
3- الهدف الرئيس الثالث يكمن في تثبيت مكتسبات التلميذ بواسطة مواجهة الوضعيات وحل ما تتضمنه من مشكلات بفضل ادماج معلوماته وتوظيفها وليس بواسطة تجميع المعلومات وتكديس الإجراءات(العمليات) دون أن يعرف التلميذ كيفية استعمالها في حياته اليومية ، وسرعان ما ينساها .وبالنسبة لأنماط إدماج التعلمات فإن كزافيي روجييرسيعتقد أنه لا المعارف المدرسية ولا القدرات، كافية لوحدها لتشكيل قاعدة صلبة لعملية الإدماج .إنها المهام والوضعيات بارتباطها بالمحتويات والقدرات ،هي التي تبني الكفايات .إنها القاعدة الذهبية التي ينبغي البحث فيها عن الإدماج .
إعداد : د. محمد الدريج