هدى قزع *
يحسن الإشارة إلى مصطلح الموريسكيين أو "الموريسكوس" بالقشتالية ، قبل التعريف في الأدب الموريسكي، حيث يعبر هذا المصطلح عن مجموعة من الأندلسيين المسلمين وأحفادهم "المُدجنين" ممن ظلوا في الأندلس" إسبانيا" بعد سقوط مملكة غرناطة 1492م ، وتعرضوا للتنصير القسري؛ بمقتضى مرسوم ملكي مؤرّخ في 14 فبراير 1502 ، 6 شعبان 907 هـ.
وتعد الصفحة الموريسكية ، صفحة إنسانية قاتمة في التاريخ العربي وفي التاريخ الإنساني؛ حيث تطلعنا على حال شعب فُرض عليه الاقتلاع من أرض أقام فيها ثمانية قرون: من 92 هجرية "711 ميلادية" إلى عام 1609 ميلادية ، وأجبر على اعتناق دين آخر، وهذا مخالف للاتفاق الذي وقّعه الملكان الكاثوليكيان مع" أبي عبد الله " حاكم غرناطة ، عقب سقوطها. ولعل التهجير القسري الذي تعرّض له الموريسكيون الأندلسيون ، على يد السلطة الإسبانية ، يعتبر أول تطهير عرقي في التاريخ الحديث لا يوازيه فظاعة إلا تطهير اليهود للفلسطينيين.
وقد نقل الموريسكيون مأساتهم وما تحملوه من ضيم أمام محاكم التفتيش في أدبهم ، فيما لا يقل عن ثلاثمائة مخطوطة تسمّى "الأدب الألخمادو"، أي الأدب الأعجمي الذي لا يفهمه إلا من عرف اللغة القشتالية ، وهو مكتوب بالأحرف العربية. وأكبر مختبر للأدب الألخميادو يوجد في "جامعة بورتوريكو" ، وتديره الباحثة "لوثي لوباث بارلت" التي نشرت حوالي 20 كتابا.
وكانت المخطوطات التي عُثِرَ عليها في تجاويف جدران المنازل ، والسقوف، والمغارات والمخابئ الأخرى ، هي السبيل للكشف عن أسرار الأدب الموريسكي وتمثلاته المختلفة .
أما المحاور التي مثلتت فيه، فمنها الديني وما هو في حكمه ، من ترجمات القرآن الكريم إلى الإسبانية والأعجمية ، و تفسيرات ودراسات له وللسنة النبوية الشريفة، و مجادلات دينية ضد النصرانية للدفاع عن الإسلام والذود عن حماه.
ومنها الأشعار الموريسكية ، ومنها السرديات في مجال القصة ، والرواية ، وأدب الملحمة ، وأدب الرحلة ، وفن الترسل.
نحاول في هذا المقال أن نمحو بعض التصورات الخاطئة التي ترى في الأدب الموريسكي أدبًا إسلاميًا منغلقًا على الروح الإسلامية ومتمركزًا في إطارها، لا يهتم إلا في بناء الهوية العربية الإسلامية للموريسكيين، وتأجيج الصراع الحضاري بينهم وبين النصارى .
من أجل هذا نعرض بعض نماذج الأدب الموريسكي التي وثقها "ألبرو غالميس دي فوينتس" في دراسته للأدب الأعجمي المورسكي وفهرسته لأغلب نصوصه، والتي تظهر بطلان هذه التصورات ومنها:
"الفتاة كركيونة": وهي حكاية تروي قصة فتاة يحكم عليها أبوها بقطع يديها ونفيها إلى غابة بعيدة، عقابا لها عن رفضها لزنى المحارم الذي دعاها إليه. لكنها لن تموت في هذه الغابة كما كان متوقعا. فقد أرسل الله إليها ظبية بيضاء لتطعمها بفمها، وتشفي جروحها بلسانها. وهي تخرج من المنفى عندما يقع أمير في حبها ويتزوجها وينجب منها ولدا. غير أنه سرعان ما تتهمها أم زوجها في عِرضها، لتعيدها إلى المنفى نفسه، ولن تكف في هذه الغابة عن التضرع إلى الله عز وجل، ليظهر براءتها ويعيد إليها يديها وزوجها وسعادتها. وثيمات هذه القصة ترتد إلى"أصول فلكلورية شرقية"، حظيت بتداول واسع في بعض نصوص الأدب الرومنتيكي الوسيط في أوروبا، الذي استلْهَم من عناصرها المكونة حكايات وقصص أخرى.
و"توبة الشقي": قصة من النصوص المورسكية التي لم تنشر مع أن كاتبها المجهول قد أودعها مخطوطة باللغة الإسبانية وبحروفها اللاتينية. وترسم هذه القصة لوحات عديدة في لهو بطلها بمدينة ما على ضفتي الوادي الكبير، حيث يرتع من العروض المسرحية، ومن المهرجانات والحفلات الصاخبة والماجنة، قبل أن يتوب إلى ربه. وتعد هذه القصة نموذجا حيا على النماذج الأدبية المورسكية، التي أنتجت على غير مثال سابق.
و"حمام زرياب": هي من أولى النصوص المورسكية التي طبعت؛ وهي قصة على غرار حكايات الحب العربية، نشرها "إغناسيو سايفدرة " في عام 1881، وأعاد نشرها "أسين بلاثيوس" في عام 1924 .
تجري أحداثها ووقائعها في قرطبة، حيث ترسم لنا مشاهد من الحياة اليومية لساكنيها خلال أوج ازدهارها. وفيها يبحث عاشق عن محبوبته الجميلة بين أزقة هذه المدينة العامرة، منشدا أشعاره التي تعبر عن ولهه بها، قبل أن تستجيب إلى حبه، ليتزوجها في نهاية القصة. ولم تكن من عادة المورسكيين في إنتاجهم الأدبي الإحالة على عصور الأندلس المتقدمة كما هو الحال في هذه القصة.
وإنما كان ديدنهم العودة إلى التاريخ العربي الإسلامي المشرقي المزدهر، ليكون عونا لهم على دغدغة عواطفهم وأحلامهم لتجاوز محنتهم ومأساتهم. وهذا ما يفسر عودتهم المكثفة إلى كتب السير والمغازي والفروسية العربية والإسلامية وآدابها، لينتجوا منها، ومن خيالهم رواياتهم وملاحمهم.
و"العابد والفاتنة": قصة تحكي عن عابد انصرف عن الدنيا إلى عبادة الله في معبده بأعلى الجبل. وفي ليلة من ليالي خلواته الطويلة بين يدي خالقه، طرقت بابه امرأة، لتقف أمامه بكل ما أوتيت من جمال وفتنة، تدعوه بهما إلى الفاحشة. وحتى يثنيها عن ذلك، أخذ يخوفها بالنار الموعودة للزناة، مقربا لها صور هذا العقاب، بوضع أصابعه ثم يده بنار موقدة تلتهمها التهاما.
ولم تستطع الفاتنة تحمل روع هذا العذاب، فسقطت ميتة على أرض معبده. وهذا ما كان ينتظره إبليس لكي ينتقم من هذا الورع، فسعى إلى الملك متهما العابد بقتل المرأة من بعد إشباعه لغريزته منها. فأمر الملك بقتله، فقتل. غير أن الله بعث نفس المرأة لتشهد أمام الملأ ببراءة المقتول وشدة تقواه، وكيف استعصم بتقواه، وكيف جازاه ربه وزوجه بخمسين ألف حورية من حوريات الجنة.
وتمثل هذه الحكاية نموذجا آخر من نماذج علاقة الأدب الموريسكي الإسلامي بالآداب الغربية النصرانية. فمن المعلوم أن هذه الآداب تحتوي _مثلها مثل الآداب العربية الشرقية_ على كثير من النصوص التي تتجلى فيها مثل هذه القصة، سواء من حيث موضوعها وغايتها، أو من حيث الثوابت الأساسية لبنيتها وتشكلها.
و"تميم الداري" : وهي قصة مترجمة عن أصل عربي، يروي فيها صحابي قصة اختطافه من باب داره والتحليق به في السماوات على ظهر دابة تطير ، ليرحل بعد ذلك إلى ممالك الجن والمردة، حيث يصف مشاهداته ومعاناته بين الطيبين والأشرار منهم، قبل عودته إلى المكان نفسه الذي اختطف منه. والطريف في هذه القصة التي ترجمها المورسكيّون للترفيه عن أنفسهم والتمتع بأدبيتها وجماليتها، فضلا عن التمثيل بها على حالتهم؛ بوصفهم محتجزين ومهجرين ومعذبين مثل تميم، أنها تذكرنا بحكايات ألف ليلة وليلة.
و"حب باريس وبيانة" : ترجمت هذه الحكاية من اللغة الإسبانية إلى اللغة الأعجمية المورسكية، وهي تحكي قصة الحب الجارف الذي جمع بين بنت حاكم فرنسا بيانة والفارس النبيل باريس الذي استحوذ على قلب محبوبته بإنشاده لأشعاره على نافذة غرفتها، وبإبرازه لنبله وفروسيته . ولم يكن لهذا الحب إلا أن ينكشف. فسرعان ما علم به الحاكم ، ليسعى إلى قتل هذا العاشق، حتى لا يحول بينه وبين رغبته في تزويج ابنته بدوق "برغونية".
وهذا ما دفع العاشقين إلى الهروب بحبهما من هذا القدر الموعود. غير أنه سرعان ما لحقت بهما فرقة من فرسان أبيها لتعيدها إليه، بعدما نجح باريس في الفرار منهم إلى مدينة "جنوة"، ليلج من بعد ذلك بلاد سلطان الشرق، حيث تعلم اللغة العربية وتمرن على التنكر في هيأة المسلمين.
أما بيانة فلقد ألقى بها أبوها في غياهب السجن، متخذا من ذلك وسيلة ضغط عليها لقبول زواجها بالدوق المذكور. وعبثا حاول ذلك، فقد كان حبها لباريس شديدا وبقوة القسم الذي جمعا به. وهكذا بقيت نار الحب تتقد على الرغم من هذا البون الشاسع الذي يفرق بين العشيقين، إلى أن أعلن البابا "إينوسيه" الحروب الإفرنجية المعروفة بالصليبية على المسلمين. فقد أسرع إلى خوضها حاكم فرنسا مثل غيره من ملوك أوروبا، حيث يدخل بلاد المسلمين ليتجسس عليهم، فينتهي به الأمر أسيرا في سجون المسلمين. وعندما علم باريس في هذا الأمر، لم يتوان عن ركوب صهوة المخاطرة، فتسلل متنكرا إلى ملكه ونجح في تخليصه من أسره.
ولم يعلم الحاكم حقيقة باريس، وكل ما كان يعرفه هو أنه مدين لهذا الفارس بحريته وبملكه، فوعده بتزويجه من ابنته السجينة عنده، إن وصلا سالمين إلى مملكته. وهذا ما كان. فبعد وصولهما إليها ، وَفى الحاكم بوعده للفارس الشجاع، الذي أخبره بعد ذلك بالحقيقة، فما كان منه إلا أنعم عليه بمسامحته، وبتعيينه وريثا لأراضيه، لتنطلق بذلك مراسيم الاحتفاء بزواج العاشقين.
وهذه الرواية تنتمي إلى رواية الفروسية الغربية في كل المقاييس المعيارية لهذا النوع الأدبي. فهي قصة كلاسيكية تشكلت من ثوابت بنائية تتمثل في سرد حكايات تحتفي بحب ثابت ، ومتواتر ومطارد، تحف به المخاطر والممنوعات من كل جانب، وتتخللها قصص المبارزات الشجاعة، وذكريات الانتقال إلى الشرق والإسهام في الحروب الإفرنجية ، التي نجدها تتكرر وتطرد في أغلب نصوص هذا النوع الأدبي المخصوص.
جلي أن المورسكيين لم يصدوا آذانهم عن الآداب الإسبانية. إذ أظهروا في هذا النص وغيره عدم انغلاقهم على ذاتهم ؛ فمترجم رواية حكايات حب باريس وبيانة، ومستهلكيها لم يتحرجوا من الإبقاء على بعض ما يمس صور المسلمين.
ولم يغيروا في معاني القصص ، إلا عندما كانت تتعلق بما لم يستطيعوا الإبقاء عليه، مما جاء فيها عن الفرق الأساسي بينهم وبين النصارى في معتقداتهم الثابتة في النبي عيسى عليه السلام وفي توحيدهم لله عز وجل وتنزيهه.
غير أن هذا لا يعني أن هذه الحكاية وغيرها مما ذكرنا لا تصدر عن مرجعية إسلامية واضحة من حيث القيم الأخلاقية التي تبعثها إلى المورسكيين. ففيها تتجلى دعوتهم إلى ضرورة التشبث في مكارم الأخلاق والصبر على الابتلاء و انتظار الفرج الإلهي؛ لذلك يلاحظ أن أغلب هذه القصص، تتوخى التعبير عن واقع المورسكيين وإمكانية تجاوزه، من خلال المماثلة التي تحرص على إقامتها بينهم وبين شخوصها وأبطالها ومجمل حكايتها. فما أشبه المورسكيين رمزيا فيها بالفتاة أركيونة، أو بالشقي التائب ، أو بالتقي المفتون أو بتميم الداري، وغيرهم.
*كاتبة وأكاديمية من الأردن.