د. محمد السليم بن عبد الله *
منذ السطور الأولى لكتاب "قصص القرآن من الرمز إلى الواقع/ دراسة تحليلية شاملة.. تأليف الأستاذ الدكتور هادي حسن حمودي، الصادر عن دار الكتب العلمية – بيروت في 3/1/2012 في 320 صفحة من القطع الكبير" ولآخر كلمة منه يتوضّح أن هدف الدكتور هادي حسن حمودي من تأليفه لهذا الكتاب هو تخليص القصص القرآني من الخرافات والأساطير التي ألحقتها مخيلات البشر بواقعات تلك القصص ثم الوصول إلى محاولة كشف ما يمكن أن نستفيده من تلك القصص في عصرنا الحاضر.
فبعد كتابه "موسوعة معاني ألفاظ القرآن الكريم" الذي أصدرته له الإيسيسكو في أواخر سنة 2011 واعتبرته مؤسسة الدراسات القرآنية في لندن التي تضمّ عددا من أكابر العلماء في الدراسات والبحوث القرآنية من العالم الإسلامي والأوروبي "ونشرته على موقعها في الإنترنات"، أفضل كتاب صدر عن معاني ألفاظ القرآن الكريم في الألف سنة الماضية على الأقل، يأتي هذا الكتاب السادس والخمسون للباحث العراقي المغترب الدكتور هادي حسن حمودي ليلقي إضاءات على حقائق التنزيل العزيز، والرد على محاولات تزييف معانيه للاتجار بها وتحريفها بعد أن عجز المحرفون والمزيفون من النيل من النصّ القرآني نفسه.
يؤكد الدكتور هادي على أنّ الإيمان باللّه قانون طبيعيّ، منبثق من شكر نِعَمِ اللّه على البشر. وتنبنِي على ذلك القانون جملة حقائق، يجدها السيد المؤلف في آيات عديدة من القرآن، يستخلص منها عددا من المسائل، لعلّ أبرزها ما يلي:
1- إنّ الإنسان قد خُلق ليكون "خليفة" اللّه على الأرض. وأنّ ذلك المخلوق يجب أن يمتنع عن الإفساد في الأرض وعليه ألاّ يقارف سفك الدماء وإلاّ فهو غير جدير بأن يكون خليفة اللّه في أرضه.
2- المقابلة بين الإفساد في الأرض وسفك الدماء، من ناحية، وتقديس اللّه من ناحية أخرى. فتلك تناقض هذه مناقضة حادّة. لذا فإنّ من يُفسد في الأرض ويسفك الدماء، لا يقدّس الخالق بل لا يبالي بأوامره ونواهيه. حتّى إذا ادّعى غير ذلك.
3- إنّ مِنَ النّاس مَنْ هو جدير بأن يكون خليفة اللّه، فهو لا يُفسد في الأرض ولا يسفك الدماء. وذلك فحوى قوله تعالى: "إني أعلم ما لا تعلمون" ردّا على الاستفهام الذي يعمّ كلّ النّاس "أتجعل فيها مَن يفسد فيها ويسفك الدماء"؟ إذ يشمل النّاس جميعا، وهو تعميمٌ دالّ على خطأ في فهم أهداف خلق الإنسان. فاذا كان هناك من يتّصف بالصّفات السيئة الشّريرة، فهناك أيضا من يتصف بالصفات الحميدة الخيّرة. واللّه يعلم ما يعلم المتسائلون وما لا يعلمون. فكان ذلك التساؤل وسيلة لبيان هذه الحقيقة.
4- إن العلم مسألة ضروريّة للإنسان، وهي من فطرته وطبيعته وسنّة اللّه فيه، وبالعلم صار آدم أفضل من الملائكة حتّى أنّهم سجدوا له بأمر اللّه، تعالى.
5- ويستنتج الدكتور هادي من آيات خلق آدم "ع"، أنّ من مبرّرات الخلق أن يأخذ الإنسانُ نفسه بالعلم والمعرفة. ولذلك حثّ القرآن الكريم على طلب العلم في كثير جدّا من آياته. فالقرآن ليس كتابا تاريخيّا ولا كتابا قصصيّا بل هو كتاب يقدّم للنّاس تعاليم تنفعهم في صياغة حياتهم، وإسعاد أنفسهم وإخوتهم في الدين والإنسانيّة. ومن أسلوبه أنّه يعرض تلك التعاليم في أطُر متنوّعة، مباشرة وغير مباشرة، عن طريق القصص والأمثال والأحكام وغيرها.
فهذه المخترعات التي توصّل اليها العقل البشريّ، مِمّا نراه ونستفيد منه فوائد شتّى، على سبيل المثال، لم تكن أشياء ملموسة محسوسة، فهي غيبٌ لم تدركه الأجيال السابقة، فلمّا أوقد الإنسان في ذاته شعلة التفكير، واستفاد من قوانين اللّه وسننه في الحياة، وصل الى هذه المخترعات والمكتشفات، وهو يواصل مسيرته لاستفادة أكبر وتطوّر أهمّ وأعمق.
6- إنّ الإنسان مدعوّ الى أن يحقّق التوازن بين نفسه والطبيعة، بالتوجّه نحو الخير، وآنذاك ينعم براحة البال واطمئنان الضمير، وهدوء النفس الذي يسعى كلّ امرئ إليه، وقد لا يفهم كيف يحقّقه إلاّ بعد زوال الفرصة وفوات الوقت الملائم. ولذلك فتح اللّه، أبواب التوبة أمام النّاس كفرصة سانحة، في جميع الأوقات للعودة الى الفطرة السليمة التي فطر اللّهُ النّاس عليها.
ونرى مزيدا من التأكيد على هذه النقاط في كل ما يستخلصه الباحث الدكتور هادي من قصص القرآن، حتى انه يتوقف طويلا أمام قصة ابنَي آدم المعروفين بهابيل وقابيل، وهما اسمان لم يذكرا في القرآن.
ويعتقد السيد المؤلف أن الأول مؤلف من قسمين "هابَ" بمعنَى "خاف" و"إيل" التي تعنِي المعبود، وأن قابيل من قسمين "قاب" بمعنَى "عصى وخالف" و"إيل" بالمعنَى نفسه. فالأول هو من خاف ربَّه والثاني هو الذي عصى ربّه. ويعتمد الدكتور في هذه الرؤية على معجمات اللغة وعلى معرفته باللغة العبرية التي يعتبرها فرعا على اللغة العربية القديمة.
ومن هذه القصة يصل السيد المؤلف إلى تقرير أنها تكشف عن مبدأ أساس من مبادئ الأديان، وقاعدة كلّيّة من قواعدها أنّ الذي يعتدي على غيره ويقتله، فكأنه قتل الناس جميعا. وأنّ من "أحيا" نفسا فكأنّما أحيا الناس جميعا. وهي قاعدة لا تختصّ بقوم دون قوم ولا بدين دون دين، بل هي عامّة شاملة لكلّ النّاس.
ويعتقد الباحث أنّ هذا الحكم أكسب هذه الحادثة صفتها التاريخيّة، ونقلها من حادثة وقعت بين أخوَين بغى أحدهما على الآخر فقتله، إلى تقريرٍ شاملٍ يعمّ النّاس جميعا في كلّ الأزمان والأماكن، تحريم العدوان والقتل. ذلك التحريم المتمثّل في "مَن قتل نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتلَ النّاسَ جميعا ومَن أحياها فكأنّما أحيا النّاسَ جميعا".
أمّا عن معنَى الإحياء وحدوده في هذه الآية فإنّ الإحياء لا يقتصر، عند السيد المؤلف، على عفو عن عدوّ أو ارتداع عن قتله، بل "الإحياء" عامّ شامل في كلّ ما ينفع النّاس: ويمنع عنهم غائلة الجوع والحرمان والفاقة، ويخفف عنهم أثقال الحياة، ويساعدهم على التطور والتقدم:
* فالاحسان الى مَن يحتاج إلى الإحسان، من الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وفي الرقاب، إحياء لهم.
* وكدّ المرء على أفراد عائلته ومَن يعولهم إحياء لهم.
* وتحرير رقبة مؤمنة إحياء لها.
* والمشاركة في تأسيس المستشفيات ومراكز العلاج وتوفير الأدوية، إحياء للمرضى الذين قد يموتون نتيجة عدم وجود مستشفيات وعلاجات.
* وتأسيس المدارس والجامعات على أسس علمية إحياء للنّاس لأنّها تقدّم لهم العلم الذي يساعدهم على تطوير حياتهم وتقدّمها ورفعتها.
* والدعوة الى السلام والأمن إحياء للنّاس كافّة.
* والعمل من أجل تحقيق تلك الدعوة إحياء للناس جميعا لأنّها تدفع عنهم غائلة الحروب والقتل والتدمير المتبادَل.
* وإقامة علاقات حوار مع "الآخر" أيّا كان، إحياء للنّاس لأنّها تطوّر "التعارف" بين الشعوب والأمم وتزيل الحسّاسيّات بينها.
* والحرص على وحدة المجتمع ورصّ الصفوف إحياء للنّاس لأنّ تلك الوحدة تعمّق فيهم مشاعر الألفة والتعاون والمحبّة فيعملون من أجل مستقبل أفضل لهم وللآخرين.
* وإحياء الأرض الموات، إحياء لها وللنّاس الذين سيستفيدون من غلّتها وإنتاجها.
* واستنباط الماء من العيون والينابيع إحياء للنّاس، إذ يوفّر لهم الريّ، ريّ أنفسهم وريّ مزروعاتهم وسقي حيواناتهم.
وهكذا قُل في جميع جوانب الحياة، لا في العصر الحديث فحسب، بل في جميع العصور والأزمان.
ولا شكّ عند السيد المؤلف في أنّ أيّة نّهضة إنسانيّة حقيقيّة تبدأ من القيَم التي أرادت هذه القصّة وسائر قصص القرآن تثبيتها في نفوس النّاس وعقولهم وضمائرهم. فالقتل والعدوان ينافيان، تماما، معنَى الإنسانيّة، ولا يمثّلان إلاّ الخضوع للغرائز الهابطة التي تُفقد الإنسان إنسانيّته في حالة سيطرتها عليه، وتوجيهها لسلوكه، بحيث لا يقف في وجهه أيّ وازع يمنعه عن ارتكاب جريمة القتل، حتّى لو كان الضحيّة أخاه أو أباه أو ابنه، أو أيّا كان من النّاس الذين حرّم اللّه قتلهم.
ولذلك فالاسلام الذي يحثّ أتباعه على بناء الحضارة والمدنيّة والتقدّم بطواعيته للتلاؤم مع الظروف المستجدّة المتجدّدة كلّ حين، لم يبنِ كيانه على القتل والتدمير، ولا على الغلوّ في فهم مسائله وقضاياه، وإنما أراد لذاته أن تكون "دعوة" للتعارف والتآلف بين البشر، أين اختلفت القناعات والإرادات والمواقف.
* خبير في الدراسات الإسلامية – الدار البيضاء – المملكة المغربية