العرب أونلاين- عبد الدائم السلامي
منذ بداية سبعينات القرن الماضي، فتّحت "ناس الغيوان" أعين الأغنية المغربية والعربية على معيش الشعوب، وانتبهت إلى أنّ التطريبَ وتهييج الجمهور وحدهما قد يغتصبان عواطف الناس، وأنّ بمقدور الغناء أن يكون بالنسبة إليهم تعبيرة عن حقّهم في الكلام وسبيلاً إلى تجريب الحرية بعد أن سارت بنسائمها رُكب الحركات الثورية في العالَم واكتظّت بتمثّلاتها أصناف الفنون الأخرى حتى صار "شعاع الشمس ما تخزنو لسوار".
في تسمية "الغيوان"
"ناس الغيوان" عبارة تعني "أهل الفَهَامة"، وهم أناس يفهمون ما وراء العبارة فلا يكتفون بظاهر لفظها، وإنما ينجذبون عميقا إلى صفاء استعاراتها ومجازاتها. وأغلب هؤلاء هم شعراء جوّالون تأثّروا بالطرق الصوفية الشعبية التي ظهرت بالمغرب مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، واكتفوا من حياتهم بوظيفة التخلّي عن الدنيا والإنشاد الذي كانوا يضمّنونه أخبار مَن مرّوا بهم من قبائل ونُجوع وتبليغها إلى مستمعيهم.
وقد تمثّلت فرقة "ناس الغيوان" تاريخ هؤلاء الرجال المجاذيب في تهياماتهم وغموضهم وترحّلهم وزجرهم من الظاهر وميلهم إلى ما لا يدركه البصر، ووجد فيه أفرادُها ما يصلح لهم سبيلاً إلى فهم متغيّرات زمنهم، فلاذوا به يستعيرون منه إيحاءاتِ التسمية، وصيغَ التواجد بين الناس، ومفردات الرحلة الروحية، والخروج من ضيق الجسد إلى براح الرؤيا.
في التأسيس
يبدو أنّ اجتماع نمطٍ من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي عاشها المغرب في ستينات القرن الماضي، إضافة إلى ظهور الحركات الاحتجاجية ذات التعبيرات المبشِّرة بميلاد نهوض ثقافي وفنّي، هو ما مثّل حاضنة ثقافية لظهور مجموعة "ناس الغيوان" وساعد على تأسيسها عام 1973 من قبل مجموعة من الشبّان من متساكني الحيّ المحمّدي بالدار البيضاء، ينحدرون في الأصل من جهات جغرافية مغربية متنوّعة، جمعهم تنوّع جغرافيا الطبيعة وثراء جغرافيا الثقافة.
ومن المؤسّسين نذكر "العربي باطما" وهو آتٍ من ربوع الشاوية المعروفة بمقاماتها الموسيقية الشعبية الأصيلة وأصواتها البدوية القويّة والرخيمة معا، وكان ينسج قصائده الزجلية ويتلقف معانيها من محيطه الاجتماعيّ الشعبيّ، وخاصة مما كان يسمع من أمه وخالته، حيث أورد اسميهما في أغنيته "حادة واختها وردية"، و"بوجميع هكور" الذي جاء البيضاء من بوادي صحراء مدينة ورزازات، و"علال يعلى" وهو عصامي في فنّه وحياته، وقد اختصّ بالعزف على آلة "البانجو" وكان ضابط إيقاع فرقة ناس الغيوان، و"عمر السيد" المنتمي إلى هوارة المعروفة بإيقاعاتها الموسيقية السريعة والساحرة، وقد ترأس الفرقة لفترة، و"عبد الرحمان باكو" الذي رحل عنّا منذ شهرين تقريبا، وهو واحد من مجاذيب مدينة الصويرة المعروفة بأصولها الكناوية، وكان يجيد استخدام آلة "الهجهوج" ويتماهى معها حد الإغماء، و"مولاي عبد العزيز الطاهري" المهوس بفن الملحون حتى النخاع، وهو ما دفع به في ما بعد إلى الانسحاب من "الغيوان" والانضمام إلى فرقة "جيل جيلالة" أين وجد ضالّته الفنية.
يُشار إلى أنّ من مؤسّسي ناس الغيوان مَن جرّب الفعل المسرحيّ، من ذلك أنّ "العربي باطما وعمر السيد وبوجميع هكور" أدّوا أدوارًا مسرحية مع الطيب الصديقي، وهو المخرج المسرحي المغربي الذي كان احتضن ميلاد هذه المجموعة الغنائية وعرّف ببعض عناصرها إلى الجمهور خاصة في مسرحية "حراز عويشة" التي أدّى فيها هؤلاء الفنانون مقاطع من أشهر أغانيهم.
ولعلّ التنوّع في الأصول الجغرافية لعناصر فرقة "ناس الغيوان"، وفي اختلاف تخصّصاتهم في آلات العزف، والرغبة في الخروج عن السائد باستثمار القديم، كلها أمور أضفت على عناصر المجموعة طابع الاختلاف والائتلاف معا، إذْ نلفي في أغانيهم تزاوجا حميما بين الأبعاد العروبية والأمازيغية والصحراوية والإفريقية.
بل إن في تعدد مشاربهم الفنية ما وسم المجموعة بميسم موسيقيّ جديد أحدث آنذاك ثورة في الطرب المغربي والعربيّ شبيهة بما تمّ في الغرب ممثَّلا بموجة "الهيبيزم"، حيث فارقت موسيقاهم السائد في المشهد الغنائي العربيّ، ونحت منحى يكون فيه الفنّ قريبا من حاجات الناس ملبيا لانتظاراتهم.
وقد تزامن كلّ ذلك مع ظهور ثورات الطلاب في أوروبا وبعض البلدان العربية، وما صاحبها من تغير على مستوى الفكر والمظهر "اللوك" في تأثّر واضح ببعض قادة الثورات في العالم على غرار "شي غيفارا"، إذ طغا على أغلب ملامح "ناس الغيوان" المادية والنفسية نمط من "الوجود في العالَم" شبيه بأحوال المجاذيب، وصورته إطالة شعر الرأس، وارتداء سراويل ضيّقة، وتدخين "الكيف"، وكثرة السّهر، وإهمال مظاهر الصحة، حيث يقول "العربي باطما" بعدما عَلم بمرضه الخبيث: "كنت أعيش الزهو ولعب الليل والجد والعبادة... أسهر كل ليل كعادتي... أغني... في آخر الليل أبكي حتى الصباح".
وإذ أطلق "ناس الغيوان" شعورهم، أعلنوا ثورتهم على العقلاء من بني الإنسان الذين يميلون إلى السكينة واعتماد التجمّل الخطابي الزائف لإخفاء عيوب معيشهم. والذي لا بدّ من التذكير به، هو أنّ عناصر "ناس الغيوان" لمّا قصدوا طرق البيتلز، لم يتماهوا معها ويذوبوا فيها على حدّ ما فعلت كثير من الفرق الغنائية التي تروم الالتزام، بل أخرجو فلسفة البيتلز من صقتها "الغربية" وأصبغوا عليها الصفة الصوفية المحلية الفائضة ببوح الأرواح، وهذا وحده دالّ على مكامن إبداعهم وعلى قوّة اختياراتهم الموسيقية.
في اللون الفني
الغالب الفنيّ على نتيج عناصر فرقة "ناس الغيوان" هو نهوضه على مأثورات شعبيّة زجليّة ذات إحالات صوفية، نلفي لها وجودا في السجلّ القولي لجل أغانيهم، وذلك سواء من حيث ذكر أسماء رجال الصوفية مثل سيدي عبد الرحمن المجذوب وابن المؤقت المراكشي وسيدي بوعلام الجيلالي، أو من حيث الملفوظ الصوفي على غرار أغنية "الله يا مولانا" حيث نقرأ في مقطع منها " الله يا مولانا/حالي ما يخفاك يا الواحد ربي/سبحان الحي الباقي/ بك عمرت السواقي/ونحلتي في نواورك مرعية/ولا تجعلني شاقي/حرمة ودخيل ليك بالصوفية"، أو من حيث طريقة أداء أغانيهم حيث يكثر فيها "الشطح" و"التهليل"، وبلوغ حالات الإغماء فيهما.
ونعتقد أنّ الصوفية، إشراقا وإيحاءً، مثّلت منهلا متحت منه ناس الغيوان كلمات أغانيها، بل إنّ في أغانيها إشراقات صوفية تذكّرنا بأقطابها القدامى، كما في هذه الأغنية التي تقول: " الناس زارت محمد/وانا ساكن لي في قلبي/الناس زارتوا بالمركوب/وانا نمشي له على رجلي".
وقد عضد هذا التوجّه الغنائيّ الصوفي اعتماد ناس الغيوان على آلات موسيقية عتيقة مثل "الهجهوج" و"الطام طام" و"السنتير" و"الطعريجة" و"الحراز" و"البانجو" و"الكمبري"، وهي التي كان بعضها مستعملاً في حضرات المجاذيب وأتباع الصوفية. هذا، إضافة إلى نزوعها جميع أغاني هذه الفرقة إلى تعرية المسكوت عنه في المعيش اليومي باستعمال كثير من السخرية السوداء الممزوجة أحيانا بحماسة ذاك الوقت.
ولا يمكن أن ننفي أنّ فرقة "ناس الغيوان" كانت تتوفّر على وعيّ كبير، رغم محدودية التكوين العلمي لعناصرها، وهو وعي فيه حرص على ضرورة إبداع أغانٍ تتساوق ومجريات الواقع المغربي والعربي والعالمي. فقد كانت تدرك حقيقة الواقع السياسي والثقافي الذي تخوض فيه، وتعرف أيضًا حدود تأثيرها في المتلقّين.
وعلى أساس هذا الوعي الفنيّ، مثّلت "ناس الغيوان" مجموعة غنائية تتغيّا تقديم موسيقى تُحيي فيها التراث الثقافي المغربي الشعبي، وتتخذها سبيلا إلى التكلم عن مشاكل الناس وقضايا المجتمع. وبذلك مثّلت أوّل فرقة غنائية مغربية تنفتح بألحانها وكلماتها على أفق من الفنّ جديد، يتّكئ على بساطة العبارة وعميق دلالاتها، فشكّلت، وفق عبارة الطاهر بن جلون، ظاهرة ثقافية مغربية هي من أهمّ ما عاشه المغرب في حراكه الفني خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك من حيث ابتعاثُها لمفردات المأثور الشعري والغنائي الشعبي من حيّز النسيان والإهمال، ومن حيث تقديمُها لتصوّر ذوقيّ وجماليّ حديث يمكن أن يُصفّي قناة التواصل بين المبدع وجمهوره.
ولئن شاع عن "ناس الغيوان" أنهم "يمارسون السياسة" عبر سبيل الغناء، بل وأن فرقتهم لا تزيد عن كونها حركية سياسيّة، وذلك من جهة اكتناز خطابهم الغنائي بمفردات الاحتجاج الفردي والجماعي، فإنّ التعامل معهم من زاوية الخطاب السياسيّ فيه كثير من التجنّي على مسيرتهم الفنية، وفيه إفقار لمنجزهم الإبداعيّ. ذلك أنّ نشأتهم الفنية لم ترتبط بأيّ مذهب سياسيّ، بل إنّ بعضًا من السياسيّين مَن اعتبرهم، في بداية ظهورهم، "أصحاب موسيقى رجعية وبدائية".
ولعلّ في تمكّن موسيقى "ناس الغيوان" من الاستشراء داخل نسيج المجتمع المغربي، وكذا العربي، وحيازتها على شعبية واسعة بين الطلبة والسياسيّين والعمّال المتنوّرين ذوي الميولات اليساريّة، قد دفع بكثير من الفاعلين السياسيّين آنذاك إلى تبنّي خطابات الفرقة، لا بل وإلى تقويلها ما لم يخطر على بالها ممّا يدخل في خانة الخطابات السياسيّة، خاصة بعد ظهور أغانيها ذات الصيت العالي على غرار "الله يا مولانا" و"مهمومة" و"صبرا وشاتيلا". وهي أغان لا تُخفي أبعادها العروبية التحرّرية التي فيها نبرات احتجاجية متصلة بكلّ ما يتعلّق بهموم المواطن العربيّ.
وهو أمر جعل بعض المنتمين إلى اليسار المغربي يلوذون بناس الغيوان سبيلا إلى كسب ودّ الناس وتحشيدهم، لكأنّما وجدوا في منجزات هذه الفرقة، على بساطة أحوالها، ما كانوا يحلمون بتحقيقه ولم يقدروا عليه رغم وفرة إيديولوجياتهم السياسية.
في أقوالهم:
•العربي باطما: " اسم أبي رحال. اسم جدي رحال. اسم أمي حادة. الرحيل، الحدود، الحدة، أسماء تعني العنف والألم وعدم الاستقرار، هكذا كانت طفولتي رحيلا بين الدار البيضاء والقرية. عشت بين الشك واليقين، وفي كل مرة، كنت أسأل نفسي، وأجد الحكمة تطو فوق كل التساؤلات: المهم، ولا شيء مهم إلا أنا".
•عمر السيد: "الأغنية الغيوانية أسمى من الأغنية السياسية، وأعلى وأنظف وأعمق".
•لمّا سلّم فريدريك ميتران، أوسمة لأعضاء فرقة ناس الغيوان من صنف فرسان الفنون والآداب التي تمنح باسم رئيس الجمهورية الفرنسية، قال لهم: "إنكم بمثابة رولينج ستون إفريقيا".