العرب أونلاين- رضاب نهار
للكاتب الإماراتي الشاب خالد الجابري إصرار على فعل السرد تجلّى ذلك في خوضه غمار الحكي مبكِّرًا، إذْ أصدر روايته الأولى "الرحّالة" عام 2009، ثم رفدها بمجموعتيْن قصصيتيْن: الأولى "ابتسامة الموتى" وصدرت ضمن مشروع "قلم" بهيئة أبوظبي للثقافة والتراث عام 2009، والثانية بعنوان "الحياة الثانية" وصدرت العام 2010. وهو يستعدّ الآن لنشر روايته الجديدة التي قال في شأنها إنها "تميل إلى الكوميديا من خلال توظيف شخوص خيالية مضحكة تبدأ بـ"هروب الخادمة"، وهو الاسم المؤقت للرواية، وردود أفعال الأسرة التي كانت تعمل عندها".
يسعى خالد الجابري إلى استثمار تقنيات السرد الغرائبيّ لمناقشة مجموعة من التمثلات الأرضية عن عالَم الفضاء في كثير من المزج بين الواقعيّة والخيال العلمي على حدّ ما جاء في قوله: "أنا في منتهى الواقعية رغم أنني أميل إلى الخيال العلمي في كتاباتي، لكنني أمزجه بأبعاد واقعية حتى يكون قريباً من القراء، ومن خلال هذا الفن أناقش قضايا واقعية واجتماعية وفلسفية". وهو في أثناء ذلك لا يني يشقّ له طريقا في الحكي جديدا يوصّف فيها حال الإنسان في خضمّ الحضارة الراهنة، حيث وقع فيها فريسة بين الواقع الحقيقي والعالم الافتراضي. ولعلّنا واجدون في مجموعته "الحياة الثانية" إنباء فنيا بحقيقة ما يعيشه الإنسان الحديث من مظاهر مليئة بازدواجية شكل الحضور في العالم.
فبين الواقعية والخيال العلمي، تعرّي "الحياة الثانية" من خلال قصة شاب يدخل في لعبة ضمن عالم التكنولوجيا المتطورة، وهي إحدى ألعاب الكمبيوتر التي تسمح لك ببناء عالم وهمي وشخصية وهمية تمكنك من العيش بالطريقة التي تريد داخل الشاشة الإلكترونية. وهنا نرى الهروب بمعناه الحقيقي والحرفي يتجسّد من خلال شخصية "سهيل" التي هي شخصية بطل القصة الذي يروي لنا حكايته. فسهيل هو الشخصية التي بنيت في الحياة الثانية، أي في اللعبة، كل ما فيها وهمي ومزيّف: الشكل، الاسم، الصفات الداخلية وكل شيء.
ويذكر داخل القصة على لسان البطل ـ سهيل: "فتى أبيض لأني أكره لوني الأسمر، واسع العينين يتفجّر منهما الحماس والجرأة التي تصل لدرجة الوقاحة والتي لا مثيل لها في عيني المنطفئتين الغائرتين، أنف طويل وفم صغير يعوّض عن أنفي الأفطس وفمي النحيل المرتجف، طويل رياضي الجسم ليس كقصري ولا نحولي".
ومن خلال هذا الشكل والاسم الجديدين، استطاع سهيل أن يفعل كل ما يعجز عن فعله في حياته الاولى الحقيقية والواقعية، بغض النظر إن كانت تصرفاته لائقة أم غير لائقة، وبغض النظر عما إذا كان يخالف الحدود والقوانين والأعراف الاجتماعية… فببساطة كما ورد على لسان سهيل في القصة: " لم يكن هناك من داع للردع في عالم لا يجد للردع مبررا". وفي مكان آخر: " انتحرت كذلك عدة مرات وبعدة وسائل وكنت أعيد الحياة إلى جسدي في كل مرة ولم يردعني عن ذلك إلا تلك الأفكار الملحدة عن الحياة والموت التي بدأت تتسلل إلى عقلي بقوة وتملأ كياني أملا في أن أؤمن بها".
الاقتباس مباشرة من القصّة، يسهّل علينا الاقتراب من معالجة الأفكار المطروحة. فما يقوله سهيل خلال أحداث الحكاية، أبلغ من أيّ وصف أو تشخيص للحالة المفروضة، ففي سؤال سهيل: "وما الفرق بين العالمين؟ هذا واقع مفترض وذلك واقع مفروض!". يطرح خالد الجابري القضية كمادة للنقاش والجدل، دون أن يحكم هو، فالحكم في النهاية للقارئ وحده.
كل شيء في الحياة الثانية يأخذ طابعا رقميا ومصطنعا، النظرات، الأصوات وحتى المشاعر. لكنّ شعورا حقيقيا بعض الشّيء قد راود سهيل عند التقائه بـ "شمّا" إحدى شخصيات لعبة الحياة الثانية. وكأنّ الجابري هنا، يأخذنا إلى طبيعة علاقاتنا التي تتراوح بين الحقيقي والمصطنع على مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك الذي يقضي عليه البعض يومهم كاملا.
يعشق سهيل شمّا التي تخبره بأنّ مجسم شكلها داخل اللعبة وكل ملامحها، صورة حقيقية عما هي عليه في الواقع الخارجي الحقيقي، يتواعدان ويتحابان، يفترقان ويعودان ويعيشان كل تفاصيل علاقتهما في أماكن كثيرة من العالم سمحت لها الحياة الثانية باستضافتهما. وبين ازدواجية الشعور والاختلاطات الافتراضية والمفروضة التي أصابتهما، يتجرّأ سهيل ويطلب يد شيما للزواج، لكنها تجيبه: "صدقني يا من تدعى سهيلا، إنّ علاقتنا وواقعنا كلّه سوف يتلاشى في ذلك اليوم الذي ستمتد فيه أصابعك بحسم لتغلق جهاز الكمبيوتر إلى الأبد".
إذا، هذه هي حالتنا الآن وهنا، جزء منا يعيش بين الناس في الحياة الأولى، يأكل يشرب ينام. بينما نقضي الجزء الآخر وراء شاشات الكمبيوتر وأجهزة الهواتف الذكية، حيث كل ما نريده متوفر بغض النظر عما إذا كان صادقا أم كاذبا. وصرنا دون أن ندري نعيش شبه حياة بأشباه أرواح…
على الرغم من أنّ القصة أو الحكاية غريبة وجديدة وتطرح مفهوم المعاصرة في حيوات الإنسان التي تبلورت في الكثير من الأشكال والتصنيفات، إلا أنّ الحبكة كلاسيكية تقليدية من البداية للنهاية، وهي قائمة على التتالي السببي والزمني. ولربما العلاقة التي نشأت في النص بين الشكل والمضمون، بين الجسد والروح، جاءت من كون خالد الجابري من أهم فناني الكاريكاتير في الإمارات. حيث للشكل الخارجي مدلولاته وأهميته عند بناء الشخصية والحبكة.
وأمّا الخيال العلمي، فيأتي من دراسة خالد الجابري للهندسة الميكانيكية، التي وجدنا ملامحها أثناء قراءتنا لـ "الحياة الثانية".
حاز الجابري المولود في أبوظبي 1978 على عدة جوائز في القصة بين عامي 1999 و2004، ومن بينها الجائزة الأولى في مسابقة القصة القصيرة بجامعة الإمارات عام 2000. وله عدة مؤلفات منها: مجموعة قصصية بعنوان "الحياة الثانية" و"ابتسامة الموتى".