رشيد البلغيتي
مقدمة:
يعتبر المغرب بلدا رائدا في إنتاج المفاهيم والتسويق لها عبر وسائل إعلامه الرسمية، وجزء كبير من أحزابه الملأ بـ"الجنود المجندين"، وكثير من الجمعيات المنتشرة على خارطة الوطن والتي احترف أصحابها مهنة التقاط المفاهيم الرسمية التي تسوقها الدولة وتصريفها إلى أهداف أو إستراتيجية، بغض النظر عن طبيعة المفهوم ومدى ملاءمته لسياسات الأحزاب أو الجمعيات المذكورة.
أبرز دليل على ذلك هو تنظيم مهرجان لـ"الهيت" بأحد أقاليم الغرب تحت شعار "الهيت في خدمة التنمية البشرية" وكذا تنظيم دوري للكرة الحديدية بأحد أقاليم الجنوب الشرقي تخللته ندوة تحمل عنوان " الكرة الحديدية والتنمية البشرية، الواقع والأفاق"..
لا يهم إذا، مدى تجانس أهداف هذه المنظمات مع طبيعة الشعار المرحلي الذي ترفعه الدولة، بقدر ما يبقى مهما تبنيه من طرف هذه الجمعيات طمعا في دعم السلطات المحلية وتمويلها.. سلطات تقابل الجميل بالجميل وتدعم بسخاء كل الجمعويين الوطنيين، متى ارتضوا لإطاراتهم أن تتحول إلى أداة لتسويق "المفاهيم المولوية".
عرض:
مرت سبع سنوات على خطاب الملك محمد السادس يوم 18 ماي 2005 الذي قال فيه "إن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ليست مشروعا مرحليا ولا برنامجا ظرفيا عابرا، وإنما هي ورش مفتوح باستمرار" وتدحرج المغرب إلى الوراء على سلم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، لكن الإعلام الرسمي و أحزاب "الجنود المجندين" وجمعيات "الهيت" والكرة الحديدية لا يجدون حرجا في تغيير شعار بشعار حسب متطلبات المرحلة وجدة المفهوم البراق الذي يخرجه المخزن من ماكينته الصدئة، التي سبق وأنتجت مفاهيم "العهد الجديد" و "المفهوم الجديد للسلطة" و "سياسة القرب" و شجرة شعارات اصفرت أوراقها في صيف الحكم المطلق الذي طال قبل هبوب نسائم "الربيع الديمقراطي" الذي لاح الخريف بعده من جديد، معلنا للعالم أن المغرب هو بلد الاستثناء بلا منازع.
اليوم، وما أشبه اليوم بالبارحة (كما يقول المثل العربي) أعيد صبغ نفس ماكينة المفاهيم بصباغة جديدة، لتخرج إلى سوق الاستهلاك مفاهيم جديدة وشعارات براقة، يدخل إلى رحمة الدولة الواسعة كل من تبناها ويؤخذ بالنواصي والأقدام كل من أنكرها أو خالفها أو وضعها محل نقد وتحليل.. وما أكثر المتبنين في زمن "ويل للمنكرين المنتقدين.."
"ربط المسؤولية بالمحاسبة" جملة يرددها منذ شهر يوليوز 2011 كورال النخبة الرسمية ومعه الجوق الوطني لصحفيي الإذاعة والتلفزة المغربية، ويربطون الجملة بسياق المجهود الجماعي الذي وجب القيام به من أجل "التأويل الديمقراطي للدستور"، في صياغة هلامية للخطاب تجعل المرء يخال أن تأويل الدستور مسؤولية تقع على خضار الحي أولا!
هنا لابد من الوقوف على "ربط المسؤولية بالمحاسبة" كجملة وردت في الدستور قبل أن تتحول إلى شعار تلوكه الأفواه لدرجة الابتذال، وبحث مدى مطابقة سلوك الدولة لهذا المفهوم الجديد، في تمرين يسهل فهمه من خلال سرد بعض الحالات الذي شهدها مغرب "الدستور الجديد"، مع الاقتصار على الأمثلة الأكثر شعبية وراهنية، وهي الثلاثة التالية :
1 - كلب غيريتس
طوال المدة الذي أشرف فيها الناخب ايريك غريتس على تدريب "المنتخب الوطني" استفاد كلبه من عناية طبية و نظام غدائي وأنشطة ترفيهية لم تتوفر لعشرات الآلاف من أطفال القرى المغربية الصامدين في الهامش، بل وصلت الضيافة المغربية إلى حد تكلف فيه السيد علي الفاسي الفهري شخصيا برعاية الكلب الألماني "جورج" ووضعه في مكان يليق بمقامه بمدينة الدار البيضاء إلى حين عودة الناخب غريتس من الغابون التي جاء منها البلجيكي يجر أذيال الخيبة. ذهب غيريس وكلبه "جورج" وبقي علي سليل الأسرة الفاسية الفهرية على رأس الجامعة الملكية لكرة القدم رغم كل الفضائح و ضدا على القانون الداخلي الذي يفرض على رئيس الجامعة الملكية شرط رئاسة فريق من فرق كرة القدم الوطنية!
2 - فضيحة مزوار
يوم 9 أكتوبر 2012 سيقف عبد المجيد ألويز أمام المحكمة بتهمة إفشاء السر المهني، والسبب هو اتهام الإطار العامل بخزينة المملكة بتسريب وثيقة إلى الصحافة الوطنية تفضح تبادل العلاوات بين نور الدين بنسودة خازن المملكة وصلاح الدين مزوار وزير المالية السابق ورئيس التجمع الوطني للأحرار. فضيحة شعارها "عطيني نعطيك يا لحبيب ونولي ليك" لم تزحزح بنسودة من موقع المسؤولية الوثير ولم تستدعي المسؤولية الأخلاقية لصاحب الحمامة الزرقاء الذي استمر في التشدق بخطابات حول النزاهة والحكم الرشيد متى التقى في منصة الحزب مع صديقه الطالبي العلمي رشيد.
3 - أجنحة الماجيدي
في واحد من أهم التحقيقات الصحفية بالمغرب، فجر محمد رضا بنشمسي قضية بحجم الفضيحة، بطلها محمد منير الماجيدي رجل القصر القوي. مدير نشر مجلة "تيل كيل" السابق جاء بأدلة مفصلة ودامغة أظهرت تورط رئيس الكتابة الخاصة للملك في عملية نصب استغلت فيها أموال عمومية مستخرجة من شركة الخطوط الملكية المغربية زمن الأزمة، بمباركة من مديرها بنهيمة ووزير المالية مزوار والوزير الأول عباس الفاسي. أموال ذهبت لشركة طيران محدودة المسؤولية، مقرها في الدار البيضاء، ورأسمالها لا يتجاوز 60 ألف درهم، أنشأها صاحب "إف سي كوم" خصيصا لاستقبال الأموال المنهوبة من دافع الضريبة المغربي حسب ما جاء بالحجة والدليل في تحقيق بنشمسي. شركة الطيران لم يبقمنها إلا أجنحة منير التي يطير بها فوق سماء المال والأعمال.
خاتمة:
بقاء علي الفاسي الفهري على رأس الجامعة الملكية لكرة القدم و محاكمة موظف شجاع بدل مزوار و بنسودة واستمرار الماجيدي في الاستثمار في الملصقات والعقار يبين زيف شعار "ربط المسؤولية بالمحاسبة" وحالة الاسكيزوفرينيا التي تعيشها الدولة بين السلوك والخطاب، ويدعوا المغاربة جميعا إلى الترافع عند منتجي المفاهيم الرسمية حتى تخرج ماكينة المخزن شعارا واضحا ومنسجما يعكس حقيقة المرحلة وهو شعار وجب أن يربط بين المسؤولية و"المسامحة".