ممدوح فراج النابي
ينضوي نتاج محمد البساطي الإبداعي تحت عباءة جيل الستينات، حيث انحياز كتاباته إلى الفئات المهمَّشة والمطحونة في المجتمع المصري، علاوة على ملامح التثوير البادية في كتاباته والتي هي سمة ملموسة عند الجميع بمن فيهم البساطي.
الكتابة عند محمد البساطي- كغيره من الجيل- خالية من الحشو والزائد، واللغة مقتصدة حاملة لدلالاتها دون بلاغة مفرطة. ويرجع الانحياز لفئة المهمشين إلى أن معظم أفراد هذا الجيل هم نتاج الطبقة الوسطى. لذا فليس غريبًا أن تأتي كتاباتهم لتعبر عن تردي واقع هذه الجماعات في ظل فشل أنظمة سياسية، وتحليق أحزاب برجماتية في أبراج عاجية، وتخاذُّل مؤسسات المجتمع بأثرها في تقليل الفجوات بين طبقات المجتمع. وقد يتميز البساطي عنهم بأنه أكثر أبناء الجيل إنتاجًا، فله من النتاج الإبداعي ما يربو عن 15 رواية، إضافة إلى مجموعاته القصصية المتعددة.
البساطي في هذه الأعمال يقدِّم شرائح من المجتمع أقل ما توصف به أنها فئات مطحونة وهي من إفراز واقع بغيض، في ظني أنه لم يبالغ في نقده لسياسات هذا الواقع وفضحه عبر تجسيده لهذه الطبقات، في صراعها لا مع طواحين الهواء أو حتى مع كائنات أسطورية وإنما اصطراعها مع واقعٍ قاسٍ يفرط في قسوته على هذه الجماعة، هذه القسوة قد تُلْجِئ الزوجة في رواية "جوع" إلى أن تترك كسرة من الخبز الجاف ليسدَّ بها الزوج رمقه في المساء دون غموس، أو جمع الابن "في ذات الرواية" الخبز المحترق من الفرن لتأكله الأسرة أو تغاضي فاطمة عن ضرب زوجها وإهانته لها؛ لئلا تعود إلى بيت أمها وما تعانيه من تحرشات زوج الأم كما هو الحال في رواية "غُرف للإيجار"، أو من قبيل أن ينسى الأب ابنته ولا يراها إلا أوَّل الشهر لا من أجل شيء وإنما فقط ليجني ثمرتها التي حان وقت قطافها، وحين تتزوج لا يدري أين هي؟ والأدهى أنها تنسى الطريق المؤدي إلى القرية كما في حالة عطيات في الرواية الأخيرة.
العالم الذي يصوِّره البساطي في هذه الرواية يبدو بسيطًا إلا أنه قاسٍ وموجعٍ، لا فَرْقَ بين زوجة يتركها الزوج بلا عائل دون أن "يُقدِّر العشرة التي هانت" غير أنه كفر بالمعنى الاجتماعي وليس الديني، أو بين الجدِّ الذي يترك حفيدته لغريب لا علاقة له به دون أن يعود، دون سبب، ومع هذه البساطة التي تُغلِّف العالم الروائي لدى البساطي يتبادر سؤال: هل انحياز البساطي لهؤلاء المهمَّشين هو ولاء لجنس الرواية التي نشأت كملحمة الطبقة البرجوازية "المتوسطة" كما عرَّفها لوكاتش قديمًا؟ أم أن هذه البساطة وهشاشة العالم وإظهاره في أضعف مواقفه الإنسانية "كأن ينتظر الجميع أمام الحمام لقضاء حاجاتهم ، لحين خروج من بالداخل"، وتلك الرهافة في السَّرد ما هي إلا تعرية وفضح لهذه الأنظمة السياسية التي تناست هذه الطبقات، فطحنتها الحياة بقسوتها.
ويعزف على نفس المنوال في مرويته "غُرف للإيجار" حيث يقف العنوان في مقابل الشعار السياسي، والذي يحمل منحى أيديولوجيًا اجتماعيًا "من أجلك أنت" ففي ظل حالة الثراء الفاحش التي بدا عليها أعضاء الحزب الوطني "السابق" والمقربون منهم وحاشيتهم، والمنتجعات السياحية التي صارت مفخرة يتباهى بها أمين التنظيم "السابق"، بأنها من إنجازت الحزب، يَخرج البساطي بعمله الثَّري الدلالة "غُرف للإيجار"، في مفارقة ذات مغزى لتناقض الحالين: الشِعار الذي يتحدث عن جماعة لا ترتبط بهوية الجماعة التي يقصدها البساطي، فهم يعيشون في السطوح، يتقاسمون الحمام، مثلما يتقاسمون الفقر والحرمان، وقبلهما الحُلم في عيش أفضل، والمجموعة الأخرى تعيش في المنتجعات. عالمان منفصلان لا رابط بينهما، أولهما واقعي فجّ والآخر خيالي. هذا هو البساطي ببساطته ينفذ إلى السِّياسة ولكن من بابٍ آخر غير الخطابات الأيديولوجية المباشرة، وإنما عَبْرَ تقديم الواقع بكل ما يحمل من قُبْحٍ وعَفَنٍ، ليخرس تلك الألسنة التي تجأر كاذبة.
في هذه المروية نحن وجهًا لوجه مع مصائر شخصيات من لحمٍ ودمٍ، لا شخصيات ورقية كما يقول رولان بارت، يصطرعون مع واقعٍ قاسٍ، لا فارق بين الأسر الثلاثة، إلا في الأسماء ومِهَن الأزواج.
وكأن البساطي بهذا لا يريد أن يتحدث عن هذه الشخصيات فقط، بل ينفذ منها ومن مشاكلها إلى آخرين يقاسمونها نفس المشاكل، ويتجرعون نفس الآلام. جميع هذه الشخصيات تجاهد على أمل عيشة أفضل، ومع هذا لم يتغير شيء ولم يطرأ أي تغيير عليهم سواء عاشوا في الصعيد أو انتقلوا إلى المدينة.
قد يقع القهر على الشخصيات النسائية، في بعض الأحيان على سبيل الخطأ، كما حدث مع بدوي الفرَّان، وهانم زوجة عثمان موظف السِّكة الحديدية "الجارة الثالثة"، حيث أخطأ في الدخول إلى غرفته، ودخل غرفة هانم خطأً، بعد عودته وهو محشش، فتضطر إلى أن تغادر المكان، وتستأجر هي وابنها غرفة أخرى، بعد أن اختفى الزوج في ظرف غامض، وهو ما مارس قهرًا معنويًا عليها وعلى ابنها، والأخير ينزوي على نفسه ويخرج كبته في الرسم الذي يرفض أن يراه أحد، وتزداد مأساته عندما تضطر الأم للعمل خادمة في البيوت، وتحضر بعض الطعام، فيرفضه ويمتنع عنه كنوع من الاعتزاز الغريزي الذي قاد الأم لأن تخرج إلى العمل دون أن تتخذَّ من الجسد وسيلة للربح. وقد يأتي القهر على سبيل المزاح، مثلما وقع على فاطمة من جارها الذي يسكن في شقة أسفل غرفتها، وما إن تنزل فناجيل القرفة حتى يجذبها من السَّبَت، وهو ما يسبب لها قهرًا معنويًا، فتبدأ على الفور في التفكير في الزوج الغيور الذي لا يتردد في ضربها عندما يراها تنظر من النافذة، فتجذب السَّبَت مسرعة ما إن تتخيل افتراض أنه لمحها.