خلود الفلاح
نعيم عبد مهلهل صوت في عالم الكتابة يمتلك صفة الانتماء لمكانه الأزلي في أور السومرية ومن هناك يحرك هواجسه بنتاجات تمتلك دهشتها في شعريتها وحضورها وحصدها للجوائز الأدبية. يكتب الشعر ويبحث في عالم الأساطير ويمارس فنونا أخرى للكتابة ولكنه يبقي خصوصية الانتماء لديه عند الرواية لأنه كتب فيها عناوين متميزة لفتت الأنظار إليه. هنا نطرح عليه أسئلة الحياة والرؤى في صناعة الرواية.
* لماذا الرواية؟
ــ لأنها تفتش عن خبايا العالم بدقة، لأنها تمضي إلى أبعد ما في رؤوسنا، الى عالم تتسع فيه الافتراضات والحلول والمسالك. فعندما تكتب فإن ايقاعا من موسيقى روحك يناجي العالم المحيط بما تود أن تقوله حتى ينتبه لك ويمنحك الإصغاء كما نداء الشاعر في ملاحمه وأحاسيسه، غير أن الرواية تختلف بتعدد ما في جسدها من أماكن وقلوب وأحشاء داخلية، هم شخوصها وأمكنتها وأمنتها وتغيرات الصور والهواجس. هي تبدأ وعليها أن تنتهي لنصل معها إلى مغزى.
الرواية هي التأريخ بشكله التفصيلي، منذ أول الهبوط "آدم وحواء" وحتى آخر إقلاع لمركبة فضاء أرسلتها ناسا لتكتشف كوكب المريخ. أقول لكِ:الرواية شهرزاد التي يرتديها الزمان بمقاسات مكانه الجديد.
*حياتك من الناصرية مدينتك الأولى إلى المهجر. كيف كان لهذه الأحداث تأثيرها على نتاجك الروائي؟
ــ الكاتب، الشاعر، الفيلسوف، عالم الذرة، السياسي، هو وليد المكان وبيئته وهي من تؤثر عليه وتؤثر على مستويات نتاجه الإبداعي. إنها جدلية قائمة بين المبدع وذلك المهد الذي أطلق فيه بكاءه الأول وحاجته إلى قطرات الضوء والحليب من ثدي أمه. أنا اعتبر مدينتي الناصرية " 360 كم - جنوب بغداد " الثدي الثالث بعد ضرعي الخصب اللذين سقياني برؤى الكلمة ودهشتها اللذين حملتهما أمي "مسماية سهر اذهيب". أعتبرها حاضنة الحلم الذي لا ولن يفارق وسادتي أينما تعددت المهاجر والمدن والمحطات. فبدون أن تكون معك مدينتك لن يكون بمقدورك أن تعي وتكتب لتكون متميزا وأصيلا لأن المدينة هي القناع الذي يرتدينا قبل أن نرتديه، فكيف بمدينة مثل الناصرية قربها ظلال الأثر الآتي من أور المقدسة والبيت الذي ولد فيه النبي إبراهيم وزقورات الآلهة وقيثارات الموسيقى.
لهذا فإن الذي تخلقه الناصرية بمن يولد فيها ويراجع دروس المدرسة تحت ظلال أفياء نخيلها ويشرب من ماء فراتها المالح، سيظل وشمها مرسوما تحت أجفانه كما ترسم شهوة النظر في عين الأعمى. نعم هي مؤثرة في كل نتاجي قصصي ورواياتي وقصائدي وخواطري وستظل. لأنك بدون أن يكون لك ظلا ملازما من مدينة أبقيتها هناك لن تحسن العيش والتأقلم مع أي مكان.
*شبكات التواصل الاجتماعي هل أوجدت قراء افتراضيين لأعمالك؟
ــ يبدو أننا أصبحنا معولمين شئنا أم أبينا، فالعولمة هي المزاج الحضاري لأواننا هذا، وربما مواقع التواصل الاجتماعي هي اليوم الواجهة الأكثر نشاطا في هذه العولمة بعد الانترنيت والفضائيات ويكفي لهذه المواقع وأهمها "الفيس بوك" أن صنعت ثورات الربيع العربي بالرغم أن الفيس لم يشعلها بل أشعلتها عربة محمد البوعزيزي في تونس لكن الفيس وتويتر استفاد من نار هذه العربة ليشعلها في أرجاء العالم العربي "العالم العربي فقط!".
ومثل بقية الناس عليّ أن أصعد في سفينة العولمة بعدأن حرمنا الفارق الزمني من صعود سفينة نوح وصارت لي صفحة بدأت بأصدقاء افتراضين وانتهت ليكونوا هؤلاء حقيقيين نتعايش معهم ونتحاور ونلتقي بهم حين نزور بلدانهم أو يزورون البلد الذي أنا فيه وبهذا ألغيت صفة الافتراض عن الكثيرين الذين أحبهم ويحبونني في صفحتي وهم بالآلاف. وأنا اشعر بالسعادة أنني أتواصل معهم كل يوم مع جديد أكتبه وجديد يكتبوه هم أو يعلقوا عليه. وبهذا لم يعد الافتراض يضع التساؤلات بل يضع العبارة المفيدة والمنتجة.
*رواية "بكاء مقابر الانجليز في بابل" رواية فانتازيا، بانورامية للمكان. ما رأيك؟
ــ هذه الرواية هي التاريخ الآتي مرة أخرى، أنا سيرة الزمن الذاتية عندما يستعاد بشكله المنحوس وكأننا لنا مع الإنكليز قدرا آخر في كل عصر بسبب ولاتنا القساة الذين يفرطون في الطمع والتهور ويمنحون الإمبريالي فرصة ليكون محتلا بثوب المحرر.
لا أعرف كيف لرؤاي أن توجز رواية هي عبارة عن سفر طويل لأحداث وهواجس وأمكنة وتواريخ. ولكن أستطيع أن أقول لك أني أكتب ملحمة الحياة الحزينة لحلم بلادي وأمنياتها واشتغلت على هاجس الإرث الانكليزي الذي تركته بريطانيا هنا على شكل مقابر وشواهد ولم تترك لنا أبراج ساعة بكبن ومعامل روز رويس، بل تركت لناآثارا من دون ألواحها وضباط ركن لا يجيدون سوى الانقلابات.
في رواية "بكاء مقابر الإنكليز في بابل" أبقيت الفنتازيا وشهوتها هي من تسير التواريخ وتكون الشاهدة الأجمل لتتكلم عن الذي جرى ويجري وسيجري وبهذا تتحمل تلك الفنتازيا مسؤولية أن تكون الشاهد والعراف والأقدر على صناعة الإثارة والتكلم بصوت المكان وهو يرثي مقابر المحتلين الذين تركوها نهبا للمعاول وأسرة نوم لكلاب الليل السائبة، ولم تكن أبدا شاهدا على نصر ما في حروبهم الأزلية.!
*في رواية "جنكيز خان: الأنوثة والسيف" تقدم إعادة متخيلة لسيرة ذاتية أي خلقت واقعا افتراضيا في أحداث الرواية الشخصية المبنية على خبر بثته رويتر. في هذه الرواية ابتعدت عن الكتابة عن الميثولوجيا المحببة لديك.لماذا؟
ـــ هذه الرواية كتبتها بهاجس الخوف الكامن في مديحنا المؤدلج روحيا لمن يجلسون أمامنا على عروشهم في القصور وشاشات التلفزيون والقصص والتواريخ. إنها الرهبة من المفزع الذي صنع تواريخنا بحكمته وخربها بسيفه، هذا الرمز الطاغية بحكمته وقسوته صنع للتاريخ حضارة مشيدة بقلاع المجد والجماجم وهو يتوالد ويتشظى منذ حجر قابيل وهابيل وحتى دخول ثورة الفيس بوك، وأنا اخترت واحدا من هؤلاء لأقص حكاياتي مع هذه الأدلجة الروحية واخترت جنكيز خان لأنه أتى من المكان البربري والطموطمي والمهجن ليمتلك العالم بصورة جديدة تحت شعار: لا تناقش عدوك، فقط اقتله واحرق بيته.
أعتقد أني في هذه الرواية اختلفت عن كل مساراتي في الكتابة، ليس رغبة في التجديد بل لأن هاجس الحكاية وخصوصيته أخذني بعيدا عن العطر الذي تعودت عليه حروفي ولكني أيضا أبقيت شيئا من خصوصية السرد لدي وميزته وبين حين وحين كنت أعود لهاجسي السومري في محاولة تجربية لمزج الأزمنة وتشابهات قدرتها فكان علي أن أضع احتراق مدينة أور على يد العيلاميين قبل آلاف الأعلام في ذات الرؤيا التي أحرق بها جنكيز خان سمر قند وبخارى وبعده جاء حفيده هولاكو ليحرق بغداد.
رواية "جنكيز خان" طبعت بطبعة سيئة جدا وبيعت بشكل كبير لأنها فازت بجائزة دبي الإبداعية وأفكر بإعادة طباعتها ثانية لأنها حكاية للحاضر والماضي والدرس البليغ لواقع أخاف فيه أن يعود التتار ثانية كما الجراد ويهدمون أحلام أجيالنا القادمة.
*لكل جيل روائي تطلعاته، قضاياه، أحلامه. برأيك هل الرواية اليوم عمل فردي صرف؟
ــ أعتقد أن الرواية يكتبها الفرد من أجل الجماعة، اليوم وأمس وغد، وتلك هي رسالة الرواية وكاتبها، وهي مثل أيّ جنس أدبي لديه رسالة حضارية تطورت مع تطور الحياة وفنون التعبير عنها، ولأنها لا تشبه القصيدة في أهدافها لكنها تلتقي معها ولكن بشكل متسع، فيكون لها ولكاتبها الحلم والقصد والتطلع. وأظن أن الرواية يكتبها الفرد لخلق القضية الكبيرة التي تشمل العالم المحيط وتتعداه إلى العالم الأكبر عندما تنال حظها وتترجم ويشتهر كاتبها.
*هل يمكننا القول إن العمل الروائي نص مفتوح بدلالات متعددة؟
ــ نعم هو كذلك، الرواية النص الذي يكتبه الروائي ليثبت أنه يستطيع التعبير عن الوجود بالتفاصيل الأكثر تأثيرا ودقة ومهنية. وهي ليست كالشعر تكتب كنص بدلالة الهاجس الروحي القادم من اللحظة الحسية المفاجئة والملهمة، إنما هو يكتب بتقنية التخييط لصناعة الحدث المؤثر والوصفي لهاجس نراه ونحسه وعلينا التعمق فيه من خلال دراسته وتتبع مسارات وجوده بتعدد هاجسه وشخوصه .
ولأجل هذا تكثر الدلالات في الرواية وكل دالة تحمل قوة آداء الرؤيا والقصد والبلاغة تبعا للقدرة الأدبية والموهبة والثقافة التي يمتلكها الروائي.
*رواياتك تطرح سؤال"المصير" ما الذي تريد أن تقوله الرواية الآن عن عالمنا، أحلامنا وتفاصيلنا؟
ــ نحن جميعنا أبناء لمصائرنا. في النهاية هي من تكون. ومنذ خليقة آدم وحتى مايكروسوفت المصير دالة البحث الأول عند البشر، أخرجه لنا جلجامش على شكل أسطورة وأدمناه نحن على شكل هاجس بكتاب "رواية أو ديوان شعر أو لوحة فنية أو كتاب فلسفة أو قطعة موسيقية "، دائما فينا من يبحث عن ذلك الغريب الذي يكمن فينا ولا نعرف متى يحط رحاله وجوابه لأسئلتنا. فقط الذين ينتحرون يستطيعون صناعة هذا المصير بإراداتهم المطلقة.
أما المصائر الأخرى فطرق صناعتها تختلف بين اجتهاد ورؤيا وحماس وفعل، ولأننا ننحدرمن الهاجس الجلجامشي الأول ومن ذات المكان والبيئة والثقافة فإن البحث عن ماهية هذه المصائر الهاجس الذي يلازم كل ما ننتجه. هذا البحث هو ما يشغل في ذاكرتي الرؤى لتكون قصائدي وخواطري ورواياتي وحتى أغاني.
ليست الرواية معي هي المصير. بل انشغالاتي الحياتية كلها تنتهي إلى سؤال، الإجابة مؤجلة بقدرية المصير وما يحسم لاحقا. إن كنت بوطنك أو بمهجرك أو فوق قمة افريست بالهملايا