لقد شكل انتشار الحمايات وما تلاه من تدخل فاحش في شؤون البلاد الداخلية، وتضخيم لأدنى حدث وانتزاع التعويضات المالية الباهضة من المخزن أحد العوامل الأساسية التي أدت إلى اختلال التوازن داخل المجتمع المغربي واضمحلال الهياكل المخزنية وتعدد الاضطرابات واستحالة كل عمل للنهوض.
جهود المخزن:
لقد حاول السلطان المولى الحسن جاهدا منذ توليته حل مشكل الحماية القنصلية، وظل يرفض المفاوضة حول أية قضية ما لا تحد فوضى حماية الأشخاص باعتبارها أصل كل المشاكل التي كانت تثار بين المغرب والقوى الأجنبية، ففي ماي 1876 بعث سفارة برئاسة الحاج محمد الزيدي إلى بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا لجلب اهتمام الحكومات الأوربية إلى أضرار ومخاطر الحماية القنصلية ولم يحصل السفير المغربي على أي التزام محدد.
لقد دامت المحاولات الرامية لوضع حد للحماية قرابة خمس سنوات ابتدأت بطنجة (1877 – 1880) وانتهت بمدريد.
ففي 10 مارس 1877 قدم نائب السلطان محمد بركاش مذكرة إلى النواب الأوربيين في طنجة تعرض مآخذ المخزن على الحماية القنصلية، وتنص على الإصلاحات الواجب إدخالها، كما تطالب بعقد مؤتمر تدرس فيه مشكلة الحماية التي تسبب مضرة خطيرة للسيادة الترابية وللموارد المالية وللإدارة والقضاء في بلاد السلطان.
وقد بدأت المفاوضات بطنجة في 9 يوليوز واستمرت إلى 10 غشت 1877، وإذا كان الممثلون الأجانب قد وافقوا على الحد من بعض تجاوزات المحميين وعلى بعض ما جاء في مذكرة بركاش (موافاة المخزن بلائحة المحميين كل سنة ) فإنهم لم يتوصلوا إلى اتفاق بشأن وضع حدود دقيقة لحق منح الحماية.
وفي سنة 1879 اجتمع النواب الأجانب مرة أخرى في طنجة للنظر في وضع نظام خاص لحماية الأجانب وطالت المفاوضات دون نتيجة.
وفي فبراير من نفس السنة طلب بركاش من الممثلين الأوربين نتائج مفاوضاتهم لكنه لم يتوصل بجواب واضح في الموضوع فطالب بعقد اجتماعات أخرى للتوصل إلى اتفاق نهائي حول حماية الرعايا المغاربة وحول الضرائب التي يجب على المحميين دفعها والجوازات التي تمنح للمغاربة الذين يهاجرون إلى دول أخرى فيغيرون جنسيتهم ولا يعترفون بسلطة القانون المغربي بعد رجوعهم المغرب، ودامت هذه المحادثات ثلاثة أشهر انتهت إلى موافقة الهيأة القنصلية على بعض المطالب المغربية دون أن تعرف حيز التطبيق، وهكذا انتهت سنتان من الاجتماعات بالرفض الشامل تقريبا للمقترحات المغربية، وأخيرا اقترح دريموند هاي عقد مؤتمر دولي لتسوبه المشكل وللبث في بعض النقط المالية التي أثارها المغرب.
وقد انتهى هذا المؤتمر الذي انعقد بمدريد من 19 مايو 3 يوليوز 1880 وبمشاركة كل القوى التي تتوفر على ممثل لها في المغرب إلى نتائج مخالفة لما كان يتوقعه المخزن، إذ لم يزد أن جعل مشكل الحماية قانونا دوليا أصبح المغرب ملتزما به أمام الدول الأوربية، فبتوسيع المؤتمر مجال امتياز الحماية ليشمل مجموع القوى الأوربية قد عمل على ترسيخها عوض التخفيف من حدتها، وزيادة على هذا اعترف المؤتمر للأجانب يحق اقتناء ممتلكات عقارية بترخيص من المخزن. وقد شكل حق الامتلاك هذا باعتبار الحصانة التي تتمتع بها كل الأنشطة الأوربية بالمغرب تنازلا حقيقيا عن السيادة الترابية، وبمعالجة المؤتمر لقضايا غير الحماية الشخصية كالملكية، والضرائب، وحرية العقيدة قد وسع مجال تدخل القوى الأوربية بالمغرب مما يشكل سابقة خطيرة.وفعلا لم يعد المخزن حرا في تصرفاته ولا يمكنه إحداث أي تغيير بالبلاد دون موافقة القوى الأوربية. لقد سجل مؤتمر مدريد عمليا نهاية استقلال المغرب.
مواقف العلماء:
لقد كان من الطبيعي بالنظر لمكانة العلماء كأوصياء على مصالح الأمة وبحكم المسؤولية المنوطة بهم أن يحددوا مواقفهم حيال ظاهرة الحماية الشخصية، ويبرزوا عواقبها بالنسبة لمستقبل البلاد والعقيدة الإسلامية، ولقد ضمنت طائفة من العلماء مواقفها في عدة كتابات جاءت على شكل فتاوى وخطب ورسائل اختلفت آراء الدارسين في تقييمها بين قائل أنها تعبر عن وعي دقيق بالخطر المحدق بالبلاد وتحدد المسؤوليات وتعرض الحلول البديلة للخروج من الأزمة، وبين مؤكد على خلو هذه الكتابات من النظرة الواقعية للأحداث واكتفائها بالوعظ والإرشاد، وأن فئة العلماء التي لم تكن تملك استقلالية اتجاه المخزن وكانت غير قادرة على تقديم فكر ومشروع مجتمعي في مستوى التحولات التي عرفها المغرب آنذاك، وهذه الكتابات لا تعدو كونها تمثل نصوصا فرعية انبثقت من نص أصلي هو النص الإلهي.
لقد اجمعت كل هذه الكتابات على استنكار ظاهرة الحماية الشخصية وإدانة طائفة المحميين والمتعاملين مع الأوربيين مسلمين ويهود والدعوة إلى محاربتهم ومقاطعتهم،هذا وقد تفاوتت هذه التآليف في مستوى تحاليلها للأسباب التي أدت إلى نشوء معضلة الاحتماء بالأجنبي ورصدها للأضرار المادية والمعنوية الناتجة عنها وكيفية سبل مناهضتها.
وإذا أخذنا رسالة العربي المشرفي كنموذج لهذه الكتابات نجده بعدتنديده بطائفة المحميين وإبراز زيف ادعاءاتهم، يتساءل عن حكم الشرع في حق هؤلاء قائلا" فهل يكون المحتمي بالحماية على هذه الحالة مسلما عاصيا أو خرج عن دينه بالكلية وللإمام أن يحكم فيه باجتهاد..."ويكتفي المشرفي بالجواب على السؤال المطروح بتوجيه النصح إلى كل مسلم بأن واجبه هو مقاطعة هؤلاء المحميين مقاطعة نهائية لأنه يرى أنها السبيل الوحيد للحد من انتشار هذه الظاهرة مؤكدا على أن تهاون رجال السلطة في اتخاذ تدابير تأديبية ضد المحميين يشجع لا محالة رعايا آخرين على اقتفاء أثرهم. وأن الأمر سيأخذ أبعاد الكارثة لأن الشك بدأ يتسرب إلى عقول العامة حيث ينظرون إلى وضعية أصحاب الحمايات ويقارنونها بوضعيتهم فيتصورون أن دين الكفار أحسن من دينهم، لأن هذا المنكر – وهو التعلق بالعدو- من أعظم المفاسد في الدين يتعين فيها الزجر والتغليط... وحيث لم يكفهم من له الكلمة من أهل الحل والعقد زادهم ذلك غلطة وفضاضة واتسع الخرق على الواقع وعظمت المصيبة وفسد اعتقاد العامة حتى ظنوا أن ذلك الدين الفاسد هو الدين الحق وأساءوا الظن بدين الإسلام والعياذ بالله.