الحياة - سامر فرنجيّة
أطلق أمين عام «حزب الله» خلال خطابه الأخير في مناسبة «يوم القدس» صرخة يأس، تُعبر عن فقدانه السيطرة على الأوضاع وضياعه في وجه المستجدّات المتسارعة في لبنان والمنطقة. فاعترف صاحب أكبر نصر إلهي في أكثر يوم من الأدلجة، بأنّ الأمور «خارجة عن سيطرة» حزبه، وأن كل ما تبقى له هو المواكبة الصامتة للأمور بعدما أصبح الحزب غير قادر «على التصرف في نهاية المطاف».
هذا الاعتراف بالضعف العميق تزامن مع تهديد غير مسبوق لإسرائيل، حيث توعّد بتحويل «حياة مئات الآلاف من الإسرائيليين إلى حالة جحيم حقيقي» وإسقاط العدد نفسه من القتلى والجرحى. هكذا، تزامن في خطاب واحد الضعف والقوة، والاعتراف بالعجز والتهديد بيوم القيامة، أي ترتيب جديد لموازين القوى في الشرق الأوسط، إسرائيل في أسفله و «الجناح العسكري لآل المقداد» في أعلاه.
شكّك البعض بهذا الاعتراف، معتبراً مسرحية آل المقداد رسالة من «حزب الله» ومجرّد أداة بين غيرها، مثل «الأهالي» أو «التحركات المطلبية»، يستعملها الحزب وفق الطلب. غير أن علاقة الحزب بمكونات بيئته أكثر تعقيداً من ثنائية الأداة والاستقلالية، يتعايش فيها الوجهان بطرق مختلفة وعلى وقع مفاوضات ضمنية مستمرة، يعاد تركيبها بين الحين والآخر. ما لم يعد موضع شكّ أن الحزب بدأ يخسر من هيبته، ويشوبه ضعف متزايد تجاه الداخل والخارج.
ولهذا الإضعاف أوجه مختلفة. فضمن البيئة الحاضنة للمقاومة، لم يعد للحزب المكانة التي حققها إبّان انتصار تموز ومرحلة التوتر الطائفي التي تلته. فمن العشائر التي حافظت على هامش من الاستقلالية، إلى التحولات الاجتماعية و «البرجزة» المتزايدة الناتجة عن التغيرات في الضاحية الجنوبية، وصولاً إلى الفلتان الأمني وانتشار المشاكل المدينية كالمخدرات، يواجه «حزب الله» معضلة إدارة مجتمع تتطلب كفاءات غير متوافرة لأي حزب، وتنذر بتحويله إلى مخلوق يشبه الدولة اللبنانية في فشلها.
تزامن هذا الضعف في السيطرة الاجتماعية مع فشل سياسي في الداخل، شكله الأساسي الأداء الحكومي التعيس ل«حزب الله» وحلفائه. فرهان الحزب، القائم على فصل موضوع السلاح عن الشأن الحكومي، سقط وتبيّن أن لا مشروع سياسياً لهذا التحالف غير عزل الخصم. وتعمق هذا السقوط مع إعادة تموضع النائب وليد جنبلاط، الذي أنهى إمكانية الفوز الانتخابي لتحالف ٨ آذار. فبعد سنتين من الحكم، يواجه «حزب الله» كابوسه، وهو العودة إلى نتائج انتخابات الـ٢٠٠٩، إن لم يكن أسوأ.
هذا السقوط الداخلي محاط بأزمة أكبر، عنوانها الثورة السورية، مع تداعياتها السياسية والأمنية والطائفية. وقد تكون تلك الحلقة الأكثر وطأة على مستقبل المقاومة، حيث تنذر بانتهاء الأسس المادية لهذا المشروع.
أما في ما يتعلق بأخلاقيته، فتكفّل خطاب «رفاق السلاح» ومن ثم توقيف ميشال سماحة، سحب أي مشروعية عن الحزب ومقاومته، محولاً إياه إلى مجردّ شريك في عملية القتل البعثية.
انهار مشروع «حزب الله» انهياراً كاملاً وسريعاً، على رغم التفوق العسكري لهذا التنظيم وصلابته السياسية المعروفة. غير أن هذا السقوط لم يأتِ نتيجة مؤامرة كونية أو طابور خامس أو مندسين إرهابيين أو حتى معارضة داخلية شرسة. بلغة أدقّ، لم يكن هناك من فاعل مسؤول عن هذا الانهيار. فجذوره في مكان آخر، خارج السياسة بمفهومها التقليدي أو المؤامرتي.
سبب الانهيار مجهول الهوية، وعنوانه العريض استعادة «الحياة اليومية» لحقوقها. تلك الحياة هي ما أفشل مشروع بناء مجتمع مقاوم وتحويل الضاحية الجنوبية إلى معسكر، إيقاعه الوحيد المقاومة ومتطلباتها. فالحياة اليومية تفيض عن تلك الأوعية البائتة، أكان من خلال حاجتها للاتصال أو المرح أو الترقي أو الراحة، أو حتى في منطقها الحاقد والطامح. ففي لحظة إتمام السيطرة الأيديولوجية للمقاومة، بدأت تفقد فاعليتها مع تحوّلها إلى واجب أخلاقي يتحايل عليه مجتمع يريد الحياة.
واستعادة الحياة اليومية لحقوقها بدت أيضاً في صلابة النظام اللبناني وتوازناته الدقيقة، ما أفشل حلم السيطرة لدى «حزب الله». ففي اللحظة ذاتها التي رُفع فيها شعار المقاومة إلى مرتبة دستور جديد، بدأت قدرته على تنظيم السياسة اللبنانية تضعف.
اكتشف الحزب أن لحلفائه مصالح ومخاوف وحتى طموحاً، بحيث إن عنوان المقاومة لم يعد يكفيهم (إن كانوا يؤمنون به أصلاً). فعلى رغم تدخّله وتهديده وتذكيره بالأخطار الإقليمية، اضطر الحزب في آخر المطاف للقبول بتمويل المحكمة وإخراج العميل والنظر مكتوف الأيدي إلى الحلفاء يرشق بعضهم بعضاً بالحجارة. هكذا، تحوّل شعار المقاومة إلى عبء ومادة للابتزاز السياسي، يتلاعب بها الحلفاء قبل الخصوم.
كما أصاب «حزب الله» تطور آخر، لم يقف أحد وراءه، ولو حاول نصرالله البحث عن الأيدي الصهيونية المخفية. إنه شوق الشعب السوري للحرية والتخلّص من الطاغية، أي الشوق لحياة يومية طبيعية، محررة من قوانين الطوارئ. فعلى رغم الخطاب الممانع ومحاولات «حزب الله» التذكير بأولوية فلسطين والمقاومة، قرر الشعب السوري إنهاء حكم الرعب الذي طال عقوداً. ولم تكن عودة الحياة اليومية في سورية لتوجَّه أصلاً ضد المقاومة، لو لم يفضّل نصرالله الحفاظ على جسر المقاومة البري على حساب حرية الشعب السوري. ففي ظل عملية الإبادة المنظّمة من قبل «رفاق السلاح»، تحوّل شعار المقاومة إلى عار أخلاقي، فاعليته الوحيدة تبرير مجازر آل الأسد.
لم ينهَرْ «حزب الله» أمام أحد، بل انهار وتعرّى أمام الجميع وأمام حياة يومية تستعيد حقوقها من تحت أقدام من أراد تجنيدها في مشاريع خلاصية، لا صلة لها بهذه الحياة. وبطرق مختلفة، أكان من خلال التمجيد القاتل للسياسة أو الابتزاز القاتل للمجد أو النبذ الصريح، انهارت فكرة المقاومة المفتوحة، ومتطلباتها المعاكسة لإيقاع الحياة.
هذا لا يعني أن الحياة اليومية خير مطلق. فهي ملتبسة كما يجب أن تكون الحياة، فيها الجميل والقبيح، والشبان الذين يريدون الحياة والعشائر التي تريد الخطف، والحاجة للصلة بالآخر والخوف التقوقعي من هذا الآخر نفسه، وفيها تطلعات للترقي الاجتماعي وحقد من ترقي الغير، وثورات تحررية واقتتال طائفي، وحكمة وجنون، وفيها ماهر المقداد وجبران باسيل وأبو إبراهيم، كما أن فيها غيرهم ممن يناضلون لحياة أقل بؤساً أو أكثر حرية. غير أنه مع كل تناقضاتها، تبقى تلك الحياة اليومية معاكسة لمنطق «حزب الله»، الذي لا يرى فيها إلا حقلاً للتنظيم أو مساحة للمؤامرات أو بيئة حاضنة. وقد ينجح «حزب الله» في إعادة تطويع هذه الحياة، غير أن المعركة محسومة لمصلحة الحياة.
في وجه ذلك السقوط، لم يعد يكفي الاعتراف بالعجز وبخروج الأمور عن السيطرة. كما لم يعد يكفي تذكير مُطلِق صرخة اليأس هذه بأن الأمور لم تخرج عن السيطرة من تلقاء نفسها، بل هناك من شجّعها ودفعها وحقنها وبرّرها ودعمها وخطط لها (وليس ميشال سماحة المخطط الوحيد هنا). كان من الأفضل استكمال هذه الصرخة باعترافين صغيرين هما أن مشروع المقاومة كمشروع مجتمع قد انتهى، وأن الحياة اليومية والنظام اللبناني والتطلّعات البسيطة للشعب السوري تستحق أن تشكّل منطلقاً لسياسة جديدة، وليس مجرد ساحات أو أهداف لمشاريع خلاصية.
فسقوط «حزب الله» هو سقوط آخر معقل سلطة (وليس دولة، للاستعانة بالثنائية المفضلة لدى ماهر المقداد) يعتبر الحياة اليومية مجرّد سبب انزعاج، يجب قمعه أو بتره باسم قيمة مفترض أن تكون مدخلنا الوحيد للخلاص. استعادة الحياة اليومية لحقوقها ليست خلاصاً، بل هي بداية إما لمرحلة السياسة أو للحرب الأهلية، وقد أصبح من الواضح أن لا مكان ل«حزب الله» في هذين الاحتمالين.