عدنان حسين أحمد
صدرت عن دار "رياض الريّس للكتب والنشر" ببيروت رواية جديدة للكاتبة السورية غالية قبّاني تحمل عنوان "أسرار وأكاذيب"، وهي الرواية الثانية في مسيرتها الإبداعية التي تضم ثلاث مجموعات قصصية أخرى أنجزتها منذ أوائل تسعينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا.
وقبل أن نلج في تفاصيل هذا النص الإبداعي المتفرّد في تقنيته وموضوعاته الاستقصائية الشائكة لابد أن نتوقف عند العنوان الذي ينطوي على قدَرٍ كبير من التشويق والإثارة.
يا تُرى، ما الأسرار التي تخبِّئها شخصيات الرواية، ولماذا لزمَ أصحابها الصمتَ كل هذه السنين لكي يبوحوا بها ويتخلصوا من حمولة الذاكرة التي أرهقتهم جميعاً؟ وما هي طبيعة هذه الأكاذيب التي أطلقها أبطال النص، سواء أكانوا مُجبَرين أم مخيّرين، لكي تشكِّل هذا الظاهرة المنبوذة نصف العنوان الرئيسي والثيمة السردية لهذه الرواية المغايرة والمختلفة وغير التقليدية في آنٍ معاً؟
لم تجترح غالية قبّاني هذا العنوان من عندياتها، وإنما تعالقت مع عنوان لفلم سينمائي مثير اسمه "جنس، أكاذيب وشريط فيديو" للمخرج الأميركي الشهير ستيفن سودربيرغ الذي أحدث ثورة في تيّار السينما المستقلة، وانتزع جائزة "السعفة الذهبية" في مهرجان "كان" عام 1989.
وعلى الرغم من هذا التلاقح الحميم بين العنوانين، إلاّ أن رواية غالية تتشعب إلى ما هو أبعد بكثير من حدود الأكاذيب العابرة واللصوصية الجنسية التي تحدث غالباً خارج إطار العلاقات الزوجية المعطوبة التي لا تُشبع رغبات بعض الناس الذين لا يجدون ضيراً في اختراق هذه الثوابت الأخلاقية والاجتماعية في آنٍ معاً.
تقنية الشكل
يلعب المضمون دورا مهما في أي عمل إبداعي، لكن تقنية الشكل، وكيفية تقديم المضمون تبدو أكثر أهمية من المضون نفسه. من هنا نستطيع أن نقول بأن تقنية التوثيق السينمائي التي استعملتها غالية قباني هي الشكل الجديد الذي اقترحته علينا لسرد نصها الروائي الإشكالي الذي ينطوي على موضوعات حساسة عديدة سنتوقف عندها تباعاً.
لا بد من التنويه إلى أن غالبية شخصيات هذا النص تستحق دراسات نقدية منفردة لأنها تتوفر على محمولات فكرية وثقافية واجتماعية كثيرة كما هو الحال مع بطلة الرواية انتصار، وبسّام، مخرج سلسلة الأفلام الوثائقية "لندن المدينة المتبناة"، وإلفة الشمّاع، المشرفة التربوية التي أصبحت عضواً في البرلمان، والعميد رسلان، المسؤول الأمني الكبير، وآصف الذي ينتمي إلى تنظيم يساري يهدف إلى تخريب البلاد، كما أنّ الشخصيات المُهاجرة التي استقرت في بريطانيا تصلح، كلاً منها على إنفراد، أن تكون أنموذجاً للشخصية الإشكالية التي تستحق الدراسة والنقد والتحليل مثل "ويتني"، "ليزلي"، "إيفا"، "أمير" الإيراني وغيرهم من الشخصيات غير العربية.
تعتمد غالية قبّاني على تقنية الاستذكار والبوح في سرد الأحداث المتداخلة التي لا تسير على خط مستقيم وفق النمط الروائي التقليدي، وإنما هناك استرجاعات ذهنية كثيرة إلى الماضي القريب والبعيد في آنٍ معاً.
فالأحداث في الرواية تنطلق مبدئياً عام 2004، أي بعد أربع سنوات من تواجد انتصار في لندن، وقد اختارت الروائية هذا العام تحديداً لأنه أسرع سنة مرّت بشكل خاطف وطوّت معها مأساة احتلال العراق من قِبَل القوات الأميركية والجيوش المتحالفة معها.
لقد بدأت أحداث الرواية بكذبة، فحينما التقى بسّام بانتصار في "ليستر سكوير" أخبرته بأنها كوسوفيّة لكي تتفاداه، خصوصاً بعد أن عرفت بأنه من صنّاع الأفلام الوثائقية الذين يلحّون كثيراً في الوصول إلى المعلومات وجمعها بطريقة محايدة.
وحينما اقترنت به لاحقاً لم تجد بُداً من القبول باقتراحه في أن تكشف أسرارها بمحض إرادتها، وتبوح بماضيها من دون ضغط أو إكراه أمام كاميرته التي نصبها في مطبخ المنزل لكي لا يكون البوح أو الاعتراف علنياً من جهة، كما أنه لا يمتلك الحق في استعمال هذه الأشرطة الأربعة التي تشكّل متن الرواية كلها من دون إذنٍ من صاحبتها.
لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن مخرج الفلم الوثائقي يحاول الوصول بفلمه إلى مستوى الوثيقة التي يمكن الاعتماد عليها كمرجع رسمي لا يقبل الدحض، وهذا هو بالضبط ما تسعى إليه انتصار، بطلة الرواية، في الوصول إلى الحقيقة، وكسب القضية بإجراءات قانونية، ليس من أجلها فحسب، وإنما من أجل أبناء شقيقتها "كندة" أيضاً.
ثيمة النص الروائي
تكمن قوّة هذا النص في تعدد موضوعاته وثيماته الرئيسية والثانوية، إذ يتمحور على الحُب، والحرب، والتمرّد، والتدجين، والغربة، والحنين إلى الوطن، والاغتراب الروحي، والذاكرة الفردية والجمعية، والحريات الخاصة والعامة، والوصولية السياسية، والمنفى الاختياري والقسري، والزيجات السريّة، وبهرجة الانتماء إلى الطبقة المتوسطة، والطبقة الجديدة من حديثي النعمة، وسجون السياسيين، ومعتقلات المعارضين للنظام الاستبدادي منذما يزيد عنأربعة عقود، وغيرها من الموضوعات المهمة التي تؤثث مدار هذه الرواية التي وصفناها بـ"المختلفة" عن الأنماط السائدة، و"المغايرة" لما هو شائع ومألوف من الأشكال الروائية المُتعارف عليها. وأكثر من ذلك فإنّ هناك معْلَمين أساسيين "إلفة وانتصار" ساهما في تعميق الرواية، وترسيخ ثنائيتها الرئيسية التي تتمثل بالتضّاد والاختلاف منذ مُفتتح النص وحتى ذروته، وصولاً إلى التناغم والانسجام في نهايته التوفيقية التي تنتصر فيها الابنة البارّة للأم التي أمضت حياتها وهي تلهث خلف الجاه والثروة والمنصب السياسي المرموق.
على الرغم من تعدّد أحداث الرواية، وتشعّب موضوعاتها، وكثرة أسرارها، وتنوّع أكاذيبها إلاّ أنني مضطر لاختصار الثيمة الرئيسية للرواية، وتقديمها للقارئ بجمل معدودة مفادها أن إلفة الشمّاع قد تزوجت سراً من اللواء زياد محي الدين الرفاعي بعد قصة حُب نشأت بينهما بينما كان يتفقّد الجرحى في قاعات الدفاع الوطني وأنجبت منه انتصار وكندة وكلا الاسمين يحملان معنى مجازياً حتى وإن لم يتحقق الانتصار الناجز على إسرائيل، أما كندة فهو اسم لقبيلة عربية معروفة.
لقد أنجب اللواء الرفاعي من زواجه الرسمي الأول تميم وناصر، وقد ارتبطت انتصار مع ناصر بعلاقة حُب "محرَّم" لم تتطور كثيراً، وقد تداركت الموقف حينما اكتشفت أنَّ ناصر هو أخوها نصف الشقيق فابتعدت عنه خارج إطار العلاقة المحرّمة التي تتيح لها التواصل الطبيعي معه ضمن الحدود المعقولة.
لقد خبأت الأم هذا السر نحو ربع قرن تقريباً، وحينما انكسرت بعد مقتل العميد رسلان الذي أُتهم بعلاقات خارجية مريبة، وأُبعِدت عن البرلمان، وسافرت إلى لندن بهدف فتح شرايينها الثلاثة المسدودة، باحت بكل أسرارها دفعة واحدة، وقدّمت الأوراق الرسمية التي تثبت نسب ابنتيها انتصار وكندة إلى أسرة اللواء زياد الدين محسن الرفاعي الذي توفي بحادث على طريق دمشق- الجولان.
تتوفر إلفة الشمّاع على غالبية اشتراطات الشخصية المُستديرة التي تصلح أن تكون أنموذجاً للطبقة الاجتماعية التي تنتمي إليها. فقد كانت مفتشة تربوية تدرجت في الحزب إلى مستوى فوق المتوسط، ثم أصبحت عضواً في مجلس الشعب لتملأ الحضور النسوي الموالي للحزب والنظام الشمولي القائم. وعلى الرغم من بساطة تحصيلها العلمي، فهي معلِّمة من قبل ومن بعد، لكنها كانت طموحة جداً، وتريد أن تختصر الطريق إلى الجاه والثروة والمجد الحزبي "الزائف"، وهنا تكمن خطورة الطموح في مزاحمة المستحقين لهذه المناصب الكبيرة.
لقد أدركت إلفة الشمّاع سر اللعبة السياسية التي يقودها النظام الاستبدادي في سوريا لذلك لم تجد ضيراً في الانتماء إلى "جوقة الزيف" الذين يطبِّلون للسلطة ليل نهار. تنتمي إلفة الشمّاع إلى الطبقة المتوسطة التي تستهدفها السلطة القمعية دائماً، سواء في سوريا أو في العالم العربي، وتحاول الاستعاضة عنها بطبقة جديدة من حديثي النعمة الذين يوالون النظام وغالبيتهم من كبار الضباط الذين ينحدرون من أصول قروية تربطهم برموز النظام رابطة الدم أو الولاء الأعمى على الأقل، كما هو حال اللواء زياد الرفاعي أو العميد رسلان وغيرهم من إمّعات النظام الذين يجهز عليهم ما إن يخرجوا عن طاعته.
تُدرك إلفة الشمّاع جيداً أن زوجها هو مسؤول أمني كبير، لكنها تداري عليه في نقاشاتها الحامية مع ابنتها انتصار التي تستغرب من قدرة أمها على استقبال رجل في سريرها يخصص جلّ وقته وطاقته لتعذيب السوريين الذين تسمّيهم بالمشاغبين تارة، وبالخارجين عن القانون تارة أخرى.
وحينما تجد نفسها محصورة في زاوية ضيّقة تقول: "إنه يحقق فقط ولا يعذِّب السجناء بيدية"! إن شهوة السلطة هي التي أعمت بصر إلفة الشمّاع، وشوّشت على بصيرتها، وجعلتها تقتنع ببراءة المكان القذر الذي يعمل فيه زوجها.
ومع ذلك فقد تركت كل شيء حتى ابنتيها وولدها المتوحِّد "ليث"، لتنشغل بمظرها الخارجي الذي يمكن أن يضعها دائماً في دائرة اهتمام زوجها الذي يريدها أن تبقى شابة نضرة كي لا تزوغ عيناه إلى ما تفتقر إليه إلفة الشمّاع.
أما انتصار، الشخصية الأكثر هيمنة في النص فإنها تبني نفسها بأسلوبها الخاص الذي استمدته من وعيها الداخلي، وثقافتها المكتسبة التي أهلّتها لأن تعتمد على نفسها وهي في سوريا قبل أن تسافر وتغترب في لندن.
فقد أحبّت ناصر، الأخ نصف الشقيق، من دون أن تعرف ذلك، وقررّت قطع العلاقة حينما تيّقنت من صحة هذه الأخوّة. كما أحبّت آصف، الإنسان المثقف الذي سينتمي لاحقاً إلى حزب يساري مناوئ للسلطة المستبدة، ويدخل بسببها إلى السجن، وسوف يصبح كاتباً معروفاً بمقالاته الجريئة التي ينشرها في مدونته باسم مستعار، ولكنه يتزوج من امرأة أخرى ليطوي صفحة علاقته العاطفية بانتصار الشمّاع التي قرّرت أن تغادر سوريا وتحقق ذاتها في المنفى البريطاني.
لم ترتبط انتصار بشخص من خارج المجتمع السوري لأنها وجدت في بسّام، الذي غيّر اسمه إلى "سام" الشخص المناسب لها، والذي لا يتطفّل على خصوصياتها. هذا الشخص الذي ظل وفياً لمرجعياته الثقافية والاجتماعية والأخلاقية على الرغم من أنه نهل الكثير من الثقافية الغربية، وتربّى عليها، وربما يكون هذا المُعطى الثقافي الغربي هو الذي لفت انتباهها وجذبها إليه.
تقودنا شخصية بسّام إلى أسرته التي غادرت سوريا لأنها تنتمي إلى الطبقة المتوسطة التي استهدفتها الانقلابات العسكرية، وشتتتها في المنافي البعيدة. فبعد تأميم البنوك الخاصة رحلت أسرة بسام إلى لندن، ومنها إلى أفريقيا، ليظل الابن الوحيد وديعة في مدرسة داخلية بريطانية يواصل تعليمه حتى يقرر في خاتمة المطاف أن يصبح مخرجاً للأفلام الوثائقية.
ونتيجة لتواجده في مجتمع متعدد الثقافات والجنسيات يجمع حوله باقة من الأصدقاء المتنوعين من ألمانيا والبحر الكاريبي وإيران وبعض البلدان الأفريقية ويجعلهم مادة لسلسلة أفلامه الوثائقية التي تتناول موضوعات الهجرة القسرية والاختيارية، والحريات الشخصية والعامة التي يوفرها المجتمع البريطاني المتطور.
تصلح هذه الرواية أن تكون أنموذجاً لأدب السجون والمعتقلات، خصوصاً وأن آصف وجماعته قد تعرضوا للتحقيق والاعتقال لاحقاً ومكثوا في السجن مدة طويلة، بل إن سوريا برمتها قد أصبحت سجناً كبيراً، والمواطن السوري بدأ يشعر بأنه مُراقب ومُطارَد في كل مكان حتى خارج الحدود السورية نفسها.
فمن ضمن الأسرار التي خبأتها إلفة الشماع هو سر أخيها عزيز الشمّاع، اللاجئ السياسي في مصر الذي كانت تحذر الاتصال به خشية من غضب النظام القمعي الذين يمنع اللقاء بالمعارضين له، والمناوئين لتوجهاته السياسية والفكرية. ينبغي أن يُدرس هذا الإحساس المرعب بالمطارَدة من قبل نقاد نفسيين لكي يسبروا أغوار هذه الشخصيات المذعورة التي لم تستطع أن تكسر حاجز الخوف، وأن تظل ضحية للترويع الذي يبثه النظام الحاكم، آخذين في الاعتبار أن انتصار لا يمكن وضعها في الخانق الضيق، لأنها متمردة أصلاً، وقد قررت كسر هذا الحاجز المقيت حينما أقدمت على الهجرة إلى لندن لتؤكد ذاتها الإنسانية، وتحقق أحلامها التي تدور في مخيلتها المتأججة.
لم يكن الشكل لوحده هو الذي يميّز هذه الرواية، وإنما لغتها العميقة المعبّرة التي استجابت لمعظم موضوعات النص الروائي وثيماته المتشعبة. فالقارئ لا يصطدم بأي ترهل لغوي البتّة، كما أن الرواية بمجملها لا تحفل بالتزويق اللفظي والمحسنات البديعية التي تُثقل كاهل النص الدرامي وتعيق انسيابية أحداثه ضمن الأنساق السردية المتعارف عليها.
لا يشعر القارئ العراقي على وجه التحديد أن هذا النص هو سوري بامتياز، بل عراقي قلباً وقالباً، خصوصاً فيما يتعلق بمنظومة القيم السياسية والفكرية التي تسلب حرية الإنسان، وتصادر حقوقه، وتدفعه لأن يقيم في هامش الحياة أو على حافتها الخطرة في أفضل الأحوال. ومرّد هذا التطابق هو هيمنة حزب البعث في كلا البلدين والذي أصرّ على أن يبقى الحزب الحاكم والوحيد، لكنه وجد نفسه خارج العراق تماماً، وسوف يجد نفسه خارج سوريا أيضاً في القريب العاجل، ولن يكون إلاّ علامة سوداء في الذاكرة الجمعية للسوريين والعراقيين على حد سواء.
لم ينهض تفرّد الرواية على حبكتها شكلاً ومضموناً، أو على البناء الرصين للشخصيات المتنوعة، وإنما على قدرة غالية قبّاني على التحكّم بالأنساق السردية المقنعة لكل شخصية على انفراد، وهذا ما منح الرواية سلاسة ودفقاً قلّما نجدهما في الكثير من الروايات العربية.
سبق لغالية قبّاني أن أنجزت عملها الروائي الأول "صباح امرأة"، لكن هذه الرواية التي حملت عنوان "أسرار وأكاذيب" قد رسّخت هذا المشروع الذي يستحق قراءة معمّقة من قبل النقاد العرب لأن حدوده الإبداعية تتجاوز السويّة الفنية، واشتراطات النص الناجح، فهذه الرواية تلامس وجدان القارئ العربي، وتحرِّك مشاعره الداخلية العميقة، كما أنها تتعاطى مع الشخصية العالمية بموضوعية نغبط كاتبة النص ومبدعته عليها. وفي خاتمة المقال لا بد لي من القول بأن هذه الرواية الإشكالية الفذّة ستسد فراغاً كبيراً في المكتبة الروائية العربية.